الصفحة الأساسية > البديل الوطني > تهديدات، اختطافات، اعتداءات، إيقافات ومحاكمات أو سقوط مهرجان الأقنعة (...)
أولى نتائج الانتخابات في تونس:
تهديدات، اختطافات، اعتداءات، إيقافات ومحاكمات أو سقوط مهرجان الأقنعة والمساحيق
4 تشرين الثاني (نوفمبر) 2009

انتهت الانتخابات في تونس إلى "انتصار باهر" لصالح السلطة القائمة. لكن حجم هذا "الانتصار" لا يقلّ أهمية عن حجم المهزلة. وقد اكتفى بن علي هذه المرة بنسبة 89,62%، ظنّا منه أن ذلك سيقيه سخرية الساخرين وتهكم المتهكمين ممن يهتمون بالشأن التونسي. لكننا نشير إلى أن نتائج الانتخابات المنتهية لا تختلف في شيء عن أرقام المهازل الانتخابية السابقة. في الواقع تحصل مرشحو الديكتاتورية (بن علي والأينوبلي وبو شيحة) على نسبة 98،47% من نسبة الأصوات. وتحصلت أحزابهم (التجمع، الإتحاد الوحدوي، الوحدة الشعبية، الخ) على 212 مقعدا من جملة 214 في مجلس باردو. طبعا لا أحد تكهّن بغير هذه النسب ولا أحد يُشكك في وهمية هذه الأرقام. "ميمونة تعرف ربي وربي يعرف ميمونة".

في تونس، كما في كامل وطننا العربي، تعودنا على خطاب "الانتصارات الباهرة" و"الإنجازات الكبيرة" الذي يسعى إلى حجب الهزائم وتردي الأوضاع.

إن تهديدات بن علي، في آخر حملته الانتخابية، الداعية إلى مقاضاة كل من يشكك في نزاهة العملية الانتخابية ونتائجها دون تقديم أدلة على ذلك مثلت المضمون الوحيد الذي أثار اهتمام الملاحظين. ولو كانت هذه التهديدات تتضمن شيء من الجديّة لكان وزير الداخلية أول ضحاياها. فهذا الأخير ليس في مقدوره تقديم أي دليل على نزاهة هذه الانتخابات أو على عدم وهمية نتائجها. ولكن بين بن علي وأبواق دعايته يمكن القول "العصفور إيغني وجناحو إيردّ عليه".

أما النتائج الحقيقية لهذه الانتخابات فهي تتمثل في الحملة القمعية الجديدة والتي يذهب ضحيتها المعارضون والناقدون الصحفيون، من ذلك الاعتداء بالعنف على حمّه الهمامي وراضية النصراوي ومعز الباي وسليم بو خذير وسيهام بن سدرين وناجي البغوري وإيقاف زهير مخلوف وتوفيق بن بريك ومجموعة من الطلبة من كلية الآداب واختفاء محمد السوداني منذ يوم 22 أكتوبر بعد أن اختطفته مجموعة من عناصر البوليس. ومن المؤكد أن حملة القمع لن تتوقف عند هذه الاعتداءات.

رغم حملة القمع هذه هناك سمات عديدة في الوضع السياسي الراهن في بلادنا يمكن أن تقينا من شر الاكتئاب السياسي لأنها تنبأ بتطورات إيجابية إذا ما عرفت القوى الديمقراطية كيف توظفها لصالحها.

إن بقاء مراكز الاقتراع فارغة وعدم توافد التونسيين عليها يُشير إلى أولى هذه السمات: إن السلطة القائمة لم يعد لها أيّ مرتكز إيديولوجي لدى أوسع الجماهير ولم تعد لها أي مصداقية سياسية، كما تفتقد مؤسساتها إلى أبسط مقومات الشرعية. ممّا يفسّر عدم مقدرة السلطة على تعبئة التونسيين في موعد سياسي مثل موعد الانتخابات. وسيزداد فعل الأيام القادمة في اتجاه تعميق الانسلاخ القائم حاليا بين نظام بن علي وأوسع قطاعات الشعب. وذلك لثلاثة أسباب على الأقل.

أولا سيتواصل احتداد الأزمة الاقتصادية من جهة وستستمر السلطة في تنفيذ اختياراتها الليبرالية والموالية لمصالح الدوائر الرأسمالية من جهة ثانية. عاملان من شأنهما أن يعمقا مظاهر البطالة وتدني مستوى عيش الشغالين وارتفاع وتيرة الاستغلال والتفاوت في توزيع الثروات عدى تواصل انتشار مظاهر المحسوبية وسرقة خيرات البلاد والتفريط فيها للرأسمال الأجنبي. أمّا سياسة الحكومة فهي السياسة الوحيدة التي يمكن أن تُشبع جشع العائلات المالكة الذي لا حدود له.

ثانيا لم يعد لبن علي حزب سياسي بالمعنى الصحيح للكلمة. أي حزب له تأثير إيديولوجي حقيقي وكوادر وقيادات ملتحمة بالجماهير ومفكرون مبدعون. وفي الواقع يظم حزب بن علي "خيرة" ما أنجبت تونس من الانتهازيين والوصوليين بمختلف المقاييس والأحجام. ومغنطيس التجمع الدستوري الديمقراطي معدنه الجشع و"الأفاريات". وحال هذا الحزب هو أقرب إلى حال الأربعين سارق في قصة "علي بابا". طبيعة الديكتاتورية وحكم الشخص الواحد وعبادة الشخصية [1] يفسّر هذه المظاهر. ومع مرور الزمن لا يمكن أن يدور في فلك الزعيم إلا الانتهازيون والمنافقون. ولكن داء الانتهازية معدي وهو يستشري في كامل الإدارة والمؤسسات ويهدد أجيال كاملة بالانحطاط الأخلاقي والمدني ويرسخ لديهم الميل إلى التفريط في الصالح العام أو ما يعبرون عنه بـ"ملك البيليك"، ما دامت لهم قناعة بأن "حاميها حراميها".

ثالثا لا تتقن السلطة الحالية غير تعبئة أجهزتها القمعية الممثلة أساسا في البوليس والقضاة المؤتمرين بأوامرها. والإيقافات والاعتداءات التي انتهت إليها الانتخابات والمحاكمات القادمة والتي تشمل بصفة خاصة أصحاب الأقلام الحرة وأصوات المقاطعة فهي تؤكد هذه الحقيقة. أما المهرجان الإعلامي وصحافة القدح في الأعراض الموالية للسلطة فهو بمثابة الشجرة التي تخفي الغاب: لا يتقن رجال السلطة سياسية المناورة وليس في مقدورهم دخول حلبة الصراع الفكري أو السياسي وإلا لكانوا تركوا هامشا من المساحات لبعض أطراف المعارضة الأقل راديكالية ولكان نصيب هؤلاء من كعكة باردو أكثر من مقعدين. ولهذا الوضع أسباب موضوعية. من ناحية ليس هناك ما يُجبر السلطة على المناورة. فموازين القوى بين المعارضة والسلطة لازالت لصالح هذه الأخيرة. ومن ناحية ثانية يدرك أصحاب القرار في نظام بن علي، وهم أصحاب الأموال الطائلة والجاه أن أيّ انفتاح سياسي ولو نسبي ومحدود المساحة يمكن أن يؤدي بالنظام القائم إلى حافة الهاوية. فالشعب التونسي رغم سلبيته السياسية يكنّ الازدراء والاحتقار للعائلات المالكة ولن يُفرط في فرصة حقيقية للتخلص منهم.

الوضع الراهن في تونس ومن هذه الزاوية يشبه ما عاشته أنظمة أوروبا الشرقية في سنواتها الأخيرة. فرغم غياب أحزاب معارضة قوية ورغم تضخم الجهاز القمعي انهارت هذه الأنظمة بسرعة كبيرة. ومردّ ذلك أنه لم يكن لها أي مصداقية أو شرعية لدى الجماهير ولا أية إمكانية للمناورة السياسية. بالطبع نحن لا ندعي أن تونس ستشهد قريبا ما عرفته دول أوروبا الشرقية. فمن جهة الوضع في تونس يختلف عن الوضع الذي كان قائما في تلك الدول من عدة نواحي ومن جهة ثانية نفس الأسباب لا تؤدي إلى نفس النتائج لأنها لا تخضع لنسق تاريخي متجانس. ولكن المؤكد أن أيّ انفتاح في تونس، بما يعنيه من إمكانية ترك المجال لفعل الجماهير، يمكن أن يعصف بالسلطة القائمة مثلما تعصف رياح الخريف بأوراق الشجر. لذلك فحكمة القائمين على شؤون الديكتاتورية، وهم رجالات من الصنف السياسي الثاني والثالث وهم أقرب إلى سجانين ولصوص منهم إلى رجال سياسة يسيّرون بحكمة مثلنا الشعبي القائل "الباب إلي إيجيك منو الريح، سدّو وإستريح".

أملنا طبعا في أن شعب تونس يُقدم يوما على فتح أبواب رياح التغير الحقيقي. وأملنا هذا لا يُعيق سعينا بل العكس هو الصحيح. وقد يكون المشوار النضالي ليزال صعبا وطويلا وهو يُلقي على عاتق المناضلين الديمقراطيين الصادقين مسؤوليات جمّة ويعرضهم إلى تضحيات لا تحصى ولا تعد.

لقد ساهم مناضلو المقاطعة في حملة تنديد واسعة وناجحة إعلاميا أيّما نجاح. لقد غدت تحاليل المقاطعة وبراهينها في كل مقال وفي كل خطاب حتى لدى من اختار نهج المشاركة من المعارضين. وغدت تعليقات وتغطيات ومقالات الصحافة الأجنبية الجادة والمستقلة وكأنها صيغت جميعها بأقلام المعارضة التونسية الداعية إلى فضح المهزلة الانتخابية. وبرهن مناضلونا في الداخل وفي الخارج على أن المقاطعة ليست استكانة للراحة أو الفرجة. كما التحق بها من لم يكن مقتنعا بصحتها في البداية. أما جدوى المقاطعة فقد برهنت عنه ردود فعل السلطة التي ثارت ثائرتها وتحوّل الخطاب الانتخابي لمرشحها إلى خطاب وعيد وتهديد كاشفا بذلك عن وجهه الحقيقي ونازعا عنه مساحيق التهريج. كما غدا واضحا للجميع أن الضربات الموجعة للسلطة والفاضحة لمهزلتها الانتخابية لم تأتها من سلوك المشاركة بقدر ما جاءتها من سلوك المقاطعة. أما الإيقافات والمحاكمات الحالية والقادمة لمن ساهم في فضح المسرحية الانتخابية وملاحقة الصحف ووسائل الإعلام الناقدة والمستقلة فإنه لن يزيد إلا في عزل السلطة القائمة وكشف عورتها إن كان لا يزال لها ما يمكن كشفه.

المؤسف في الظرف الراهن، لا يكمن لا في قمع الديكتاتورية ولا حتى في نعامة التونسيين وخوفهم، بل يكمن حسب رأينا في مسلك "المعارضة الجديّة". وهمّ هذه المعارضة ليس في "مشاركتها النضالية" بقدر ما هو في قبولها الجلوس (بكرسيين اثنين من جملة 214) في مجلس غير شرعي ونابع عن عملية سطو على إرادة التونسيين واغتصاب فاضح وعلى الملء لحريتهم. جاء في البيان الأخير "للمبادرة الوطنية" بزعامة حركة التجديد ما يلي: ""تسجّل المبادرة الوطنية عدم إقصاء حركة التجديد من مجلس النواب حيث ستكون ممثلة بنائبين يتحملان مسؤولية الإصداع بمواقف المعارضة الجدّية"، بينما يتمّ إقصاء الشعب التونسي بأكمله من تمثيله في برلمان حقيقي. تغض مكونات "المبادرة الوطنية" الطرف عن ذلك وفي المقابل تقبل بما تسميه عدم إقصائها هي من برلمان غير شرعي وتكتفي بفُجلتين تحت يافطة "المعارضة الجديةّ". وفي رأينا أن الحد الأدنى من الجديّة لدى أي معارضة جديرة بهذا الاسم هو رفض الجلوس في مجلس صوري وغير شرعي.

نحن نعتقد أن مسار المعارضة هو مسار عزل الديكتاتورية وتشديد الخناق من حولها ممّا يعني تجفيف كل شرايين الاتصال بها وعدم الاعتراف بمؤسساتها الصورية ورفض كل ما يصدر عنها من سياسات وقوانين وإجراءات باعتبارها مؤسسات غير منتخبة ولا شرعية لها. فلا اعتراف بسلطة بن علي ولا شرعية لبرلمانه ولا حوار مع دولته. لهذه الأسباب نحن نضم صوتنا إلى صوت الدكتور المنصف المرزوقي الداعي إلى مقاومة الاستبداد والعصيان المدني ضده ولا نرتاح إلى النداءات الداعية إلى الحوار الوطني مع سلطة اثبت التجارب بكل المقاييس أنها ليست أهلا له.

لقد أثبتت الأحداث الأخيرة أن المقولة التي تتبناها بعض أطراف المعارضة الديمقراطية والداعية إلى التدرج في الديمقراطية تحت سقف الديكتاتورية، هي مقولة باطلة بل هي بث للرماد في العيون. فاثنين وعشرين سنة من حكم بن علي وثلاث وخمسين سنة من حكم حزب الدستور تركت الديمقراطية في النقطة الصفر ولم تأت بأيّ تدرج أللّهم في اشتداد نسق الاستغلال الرأسمالي وبيع البلاد للأجنبي وخيانة القضايا العربية واستفحال مظاهر الفساد والرشوة والمحسوبة وثراء العائلات الحاكمة ثراء فاحشا. وإذا ما حققت تونس بعض المكاسب فليس ذلك بفضل بن علي ولا بفضل "الطرابلسية" أو "الماطرية" ومن لفّ لفهم بل بفضل سواعد شعبها ونضاله ونضال نخبته.

إن الاعتراف بمؤسسات السلطة بما فيها البرلمان الصوري والتعويل على الحوار معها من أجل تحقيق "الانفتاح السياسي" ورفض الانخراط في جبهة ديمقراطية لتشديد عزلتها لن يكون له من مفعول غير التمديد في أنفاس الديكتاتورية واستمرار أوجاع شعبنا.

غسان الماجري
4 نوفمبر 2009

هوامش

[1يجب التذكير بشعار التجمع خلال الحملة الانتخابية " الله أحد... الله أحد... بن علي ما كيفو حد".


الصفحة الأساسية | خريطة الموقع | البريد الالكتروني