الصفحة الأساسية > البديل الثقافي > حكايا*
حكايا*
بالمختصر المفيد
24 تشرين الثاني (نوفمبر) 2011

رضا البركاتي
ridhabarkati@gmail.com

1. حكاية الفلاح

كنّا، ذات يوم، في بداية التسعينات، في مقر جريدة البديل بنهج هولاندة، منهمكين في إنجاز عدد الأسبوع لمّا دخل علينا بهامته المنتصبة وقد تأبط مظلته التي انتزعها عند الباب وعلى كرسي مهمل بجانب من القاعة وضع قفته التي انفرجت فكشفت عن محتواها: كتب وجرائد.

كان السلام حارا رفاقيا والقبضة فولاذية. وقبل الجلوس ودون مقدمات سأل: «هل أمضى الحزب على الميثاق الوطني؟» فتناثر الجواب من هنا وهناك بالنفي.

جلس وهو يقول: «كنت متأكدا. هذا هو الموقف السليم.» عندها وضع رجلا على رجل وتقعفر (ربّما يكون هذا الفعل من قعفور المدينة التي يُعْرف أهلها باليقظة والكبرياء...) في جِلْستِه فلاحظت حذاءه النظيف اللاّمع فتذكرت أنّه كلما انحدر من ثنايا سليانة يمرّ مباشرة إلى رأس شارع قرطاج فيسند ظهره إلى شجرة «الجاكرندا» ويمدّ رجله اليمنى ثمّ اليسرى لصديقه ماسح الأحذية فينزع عن حذائه رطلين من حمري أديم «فريقا». وبعدها يقوم بجولته التي لا بدّ منها: ذهاب وإيّاب بباب البحر مرّتين من تمثال ابن خلدون إلى ساحة إفريقيا، حاليا ساحة شهداء 14 جانفي.

في تلك الأثناء كانت الأحزاب، كـ«الطواويس»، تدخل مزهوة نافخة الرّيش تحت سقف المخلوع الواطئ إلاّ حزب العمّال. لم ينحن. وظلّ وفيا لاختياره المبدئي: الانحياز للشعب والوفاء لقضاياه.

سألناه عن سبب سؤاله وسرّ نزوله إلى العاصمة وأحوال الرفاق هناك.

طلب ماء. ارتوى. عدّل من جلسته وقال: دارت نقاشات مع بعض الأطراف حول الميثاق الوطني ولكنّي سأحكي لكم حكاية صيد القردة.

2. في قبضة عبد المولى...!

في غابات إفريقيا يأخذ صيّاد القردة جرّة ذات عنق ضيّق طويل يقارب الذراع ويضع في جوفها فاكهة تحبّها القرود ويعلق الجرّة في شجرة ويشدّ وثاقها.

القرد يعرف أنّ الجرّة بها فاكهة لذيذة. يُدخل يده فتدخل. يملأ قبضتَه بالفاكهة فتمتلئ. يريد أن يخرجَ يده فلا تخرج.

هو لا يريد أن يفتح كفّه ويترك الفاكهة فتخرج يده ويستعيد حريّته. ويده لا تستطيع الخروج من الجرّة وكفّه ملأى بالفاكهة.

ويظلّ القرد حبيسا ولا سجن، مقيّدا ولا قيد.

إنّما قَيْدُه يده لمّا لامستْ الفاكهةَ. وسجنُه الطمعُ الذي حجَبَ عن بصيرته الرأيَ فما رأى حقيقةَ ما هو فيه.

ويأتي الصيّادُ فيضعه في قفص ويصندقُه. ويبيعُه لتاجر العبيد الشيخ عبد المولى صاحب الجبّة المقلّمة المخططة بالأسود والأبيض. فيسلّمه للرجل الأبيض لينتهيَ أضحوكة يلهو بها الأطفال في حدائق الغرب أو موضوع تجارب في المخابر.

3. حكاية الملاّح

في السنوات الأولى بعد الألفية الثانية، أقبل الكثيرون على مَحْوِ الأمية الجديدة سعْيًا لردْم الفجْوة المعلوماتية، فانخرطتُ في ممارسة فنّ الإبحار على شبكة الواب مع من أبحَرَ.

وبعد تحجير جريدة البديل الورقية ظهرتْ البديل الإلكترونية. وكنتُ من مراسليها كما اشتركت في عدّة مجموعات مثل مجموعة «الديمقراطية النقابية والسياسية» وأخيّتها «ضدّ التجريد». وتوسّعت العلاقات والمراسلات الإلكترونية حتى أصبحت ملاّحا يُجيد فن الإبحار بل صرت قرصانا يتحدّى حواجز عمّار ويلتقي بالملاّحين الأحرار في كلّ البحار.

وتلقيت عديد الرسائل من ملاح عنيد يُدْعى «جمال» عنوانه ببروكسال. والسيّد جمال هو ملاّح جريء وقرصان مغامر سخّر نشاطه لفضح نظام رأس المال والكشف عن قوانينه الداخلية وأسراره وأساليب النهب...

وفي إحدى الرسائل الإلكترونية وجدت حكاية القرية الإفريقية.

4. ازدهار قرية!

كانت القرية الإفريقية في عيش هانئ، هادئ، لمّا دخلها رجل أبيض مصحوبا بتابعه وهو رجل خديج (أي خرج من بطن أمّه في شهره السابع) وهو من أبوين أبيض وأسود وولد بخطوط سوداء وبيضاء مثل جحش حمار الوحش. وتحدّث الرجل الأبيض عن ميثاق بين شركته العالمية وقريتهم التي اختارها دون بقية القرى لإدراجها في الدورة الاقتصادية العالمية وتحقيق التنمية والازدهار. ثمّ أعلن أنّه مستعدّ لشراء كلّ قرد بخمسة دولارات.

غادر الرجل الأبيض القرية وترك تابعه يشتري كلّ قرد يقدّم إليه فيضعه في قفص. بعد أيام عاد الرجل الأبيض وأعلم خادمه بالترفيع في سعر القردة إلى عشر دولارات للقرد الواحد. وبدأت الأقفاص تمتلئ والقردة تقلّ في الغابة. وبعد أسبوع أعلم التابع أهل القرية أنّ سيّده الرجل الأبيض أعلمه بالترفيع في سعر القردة فأصبح خمسة عشر دولارا. فترك كلّ من لم ينخرط في تجارة القردة حرفهم وأعمالهم الأصلية وتحوّلوا جميعا لصيّادي قردة. قلّت القردة. ولأنّ كلّ نادر ثمين ارتفع سعر القردة مرّة أخرى وبلغ الخمس والعشرين دولارا. امتلأت الأقفاص بالقردة وصار من الصعب العثور على قرد في الغابة.

استدعى الرجل الأبلق أي المبقع بالأبيض أهل القرية وأعلمهم أنّ سيّده ينوى مضاعفة سعر القرد ليصبح خمسين دولارا. وعرض عليهم مساعدته، وذلك بأن يبيعهم القرد الواحد بأربعين دولارا، في غياب سيّده، وما عليهم إلا العودة غدا لبيع قردتهم بخمسين دولارا.

فتزاحموا على اقتناء القردة حتى اضطر لتنظيم العملية والحدّ من الاحتكار بتمكين كلّ عائلة من اقتناء بعض القردة.

في عشية ذلك اليوم كانت أقفاص الشركة العالمية فارغة وأمام كلّ بيت رُبِطتْ القردةُ في حظيرة.

وفي صباح الغد، أفاق أهل القرية فلم يجدوا أحدا في مقر الشركة العالمية للقردة. كانت الإدارة فارغة، خالية، مهجورة تماما كما الأقفاص.

لقد رحل خادم الشركة العالمية بكلّ ما يملكه أهل القرية.

وبعد أيّام ولمّا تبخّر أملُ عودةِ الشركة واستحال على أهل القرية مواصلة العناية بالقردة وتغذيتها، فكّوا رباطها وأخلوا سبيلها وأعادوا لها حريتها. لكنّ القردة رفضت العودة إلى الغابة وغزت القرية وعبثت بها وعاثت فيها فسادا.

لقد حلّ بالقرية الإفلاس.

ملاحظة

(*) أهدي هذه الحكايا للفلاح أحمد بن شعبان الفرشيشي والصديق ابن الحومة رضا الجويني.


الصفحة الأساسية | خريطة الموقع | البريد الالكتروني
https://www.traditionrolex.com/23