الصفحة الأساسية > كتب ومنشورات > بمناسبة المهزلة الانتخابية أكتوبر ‏‏2004‏ - مشروع وثيقة: من أجل بديل ديمقراطي (...) > مهزلة 24 أكتوبر تعمق أزمة شرعية النظام
بمناسبة المهزلة الانتخابية أكتوبر ‏‏2004‏ - مشروع وثيقة: من أجل بديل ديمقراطي وشعبي
مهزلة 24 أكتوبر تعمق أزمة شرعية النظام

لقد اندرجت انتخابات 24 أكتوبر 2004 في إطار هذا السعي المحموم إلى الحفاظ على نظام بن علي الدكتاتوري البوليسي ضمانا لمصالح الأقلية النهابة والفاسدة المنتفعة من وجوده ومن بقائه. وكما كنا نبهنا إلى ذلك عديد المرات فقد كانت هذه الانتخابات مجرد مهزلة تهدف إلى إضفاء شرعية زائفة على نظام الحكم. فقد افتقدت لأدنى الشروط التي تجعل منها انتخابات حرة تعكس إرادة الشعب وتكرّس سيادته. لقد جرت في إطار المصادرة التامة للحريات والحقوق ومنها بالخصوص حرية التعبير والإعلام وحرية التنظّم فضلا على حرية الترشّح والحق في الاقتراع وهي الحريات والحقوق التي تفقد من دونها العملية الانتخابية كل معنى. كما أنها جرت في نطاق الغياب التام لحياد الإدارة الذي يمثل ضمانة أساسية لنزاهتها ولاستقلالية القضاء التي تضفي عليها المصداقية المطلوبة. فالإدارة خاضعة تماما للحزب الحاكم الذي يسيطر على كافة المسؤوليات فيها مما جعل منه حزبا/دولة. والقضاء تابع تماما للسلطة التنفيذية ليس له من دور سوى إضفاء صبغة قضائية على قراراتها الجائرة. وحتى المجلس الدستوري الذي عهدت إليه مراقبة العملية الانتخابية فجميع أعضائه عيّنهم بن علي سواء بصورة مباشرة أو غير مباشرة ناهيك أن رئيس هذا المجلس، فتحي عبد الناظر، ليس هو إلا مستشار بن علي القانوني طيلة سنوات عُيّن بعدها مباشرة على رأس المجلس المذكور. أما "المرصد الوطني للانتخابات" فكافة أعضائه عينهم بن علي أيضا من بين العناصر الأكثر ولاء له. كما أن بن علي هو الذي اختار بنفسه المراقبين الأجانب الذين لا يوجد من بينهم شخص واحد معروف باستقلاليته ونزاهته ويحظى بحد أدنى من المصداقية. فهم إما من المرتزقة الذين يوزعون شهادات الزور مقابل "العطايا والهدايا" أو من العناصر الرجعية المعروفة بمساندتها للدكتاتوريات ومعاداتها السافرة للحرية والديمقراطية. وإنه لمن المهازل أن تكون الجامعة العربية التي لا يوجد من بين أعضائها دولة ديمقراطية واحدة، "مراقبا لانتخابات بن علي وشاهدا على نزاهتها".

"الانتخابات الرئاسية": ترشحات لـ"معاضدة" بن علي وحملة على القياس

وفي غياب هذه الشروط الدنيا لانتخابات حرة، جاءت العملية الانتخابية ونتائجها لتؤكد طابعها المهزلي الذي تحدثنا عنه. فـ"الانتخابات الرئاسية" التي جرت في إطار التعديل الدستوري الذي سمح لبن علي بالترشّح، بصورة غير شرعية وغير مشروعة، لولاية رابعة تفتح له باب الرئاسة مدى الحياة على مصراعيه، كما سمح له بتعيين "منافسيه" الذين أوكل لهم القيام بدور "التياس"، انحصر الترشّح لها في بن علي وفي محمد بوشيحة الأمين العام لحزب الوحدة الشعبية ومنير الباجي الأمين العام للحزب التحرري الاجتماعي وكان كلاهما قد زكّى التعديل الدستوري المذكور ومحمد علي الحلواني رئيس المجلس الوطني لـ"حركة التجديد" الذي تقدم باسم "المبادرة الديمقراطية" التي ضمت الحركة المذكورة ومجموعة من العناصر المستقلة إضافة إلى جماعة "الشيوعيين الديمقراطيين". وقد خيرت حركة الديمقراطيين الاشتراكيين بزعامة إسماعيل بولحية "ترشيح الرئيس بن علي". كما قرر "الاتحاد الديمقراطي الوحدوي" من جهته "مساندة ترشح الرئيس بن علي". وفي ما عدا ذلك أغلق باب الترشّح أمام الشخصيات المستقلة حقا عن السلطة والمعارضة لها. فالقانون الانتخابي يشترط الحصول على توقيع 30 نائبا في البرلمان أو 30 رئيس بلدية للترشح للرئاسة. وبما أن كافة رؤساء البلديات من الحزب الحاكم وأعضاء مجلس النواب إما أنهم من الحزب الحاكم (80%) أو من أحزاب الديكور (20%) فإن أيا منهم لا يجرؤ على إعطاء توقيعه لمرشح لا ترضى عليه السلطة، وهو ما حصل للأمين العام للحزب الديمقراطي التقدمي مثلا الذي حاول الترشّح ولكنه لم يحصل على أي توقيع. فحتى النواب الخمسة لـ"حركة التجديد" المنخرطة في "المبادرة الديمقراطية" والتي نادت مبدئيا بحق الأحزاب الأخرى في تقديم مرشحين للرئاسة، رفضوا منحه توقيعاتهم. أما الفصل 40 من الدستور المعدّل في سنة 2003 فإن الفقرة التي أضيفت إليه بصورة استثنائية في علاقة بـ"انتخابات" 2004 لا تجيز الترشّح إلا لأحزاب المعارضة المتواجدة في البرلمان على أن يكون مرشحها إما الأمين العام أو أحد أعضاء المكتب السياسي شريطة أن تكون له أقدمية بخمس سنوات. وبما أن الأحزاب التي لها تمثيل في البرلمان مَدينة بذلك لبن علي وليس لصندوق الاقتراع فإن الترشّح للرئاسة انحصر في هذه الحالة أيضا في أحزاب الديكور وفي "حركة التجديد" التي كانت قبل أن تغير نسبيا سياستها في مؤتمر 2001 من بين تلك الأحزاب المؤيدة لبن علي والتي دخلت البرلمان في مهزلتي 1994 و 1999 مكافأة لها على ذلك التأييد وهو أمر يدركه جلّ مناضلي هذه الحركة إدراكا جيدا. وبعبارة أخرى فإن بن علي هو الذي ظل في كل الحالات يتحكم في الترشّح للرئاسة حتى يتلاعب به وفقا لما يخدم مصلحته.

إن حملة "الانتخابات" الرئاسية لم تخرج هي أيضا عن الإطار الذي حددته لها الدكتاتورية. إن الخيط الأساسي الذي قاد مخططي هذه الحملة في القصر وفي وزارة الداخلية هو الحفاظ على الصورة الزائفة لبن علي التي تقدمه عليها الدعاية الرسمية وهي أنه "المرشح الوحيد" الذي يحظى بـ"تأييد كافة فئات الشعب". وهذه الصورة ترمي إلى تحقيق هدفين، الأول تبرير انقلاب بن علي على الدستور وبقائه في الحكم مدى الحياة والثاني تبرير النتائج المزورة التي ستسفر عنها المهزلة الانتخابية. وهو ما يقتضي تجنيبه أي نقد وخاصة النقد الذي يشكك في شرعية ترشحه وفي مصداقية إنجازاته المزعومة كما يقتضي تقزيم منافسيه وإظهارهم إما في مظهر مهزلي أو في مظهر المؤيدين له أو العاجزين عن منافسته. ومن هذا المنطلق عملت السلطة على "تأطير" الحملة "الانتخابية" للرئاسية حتى لا تخرج عن الإطار الذي حدد لها. فخلافا لمقتضيات المجلة الانتخابية التي تنص على مبدأ "المساواة" بين المرشحين، سُخّرت كافة وسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة والمرئية لتمجيد بن علي والثناء عليه والتأكيد على مبايعة الشعب له مسبقا وتقزيم منافسيه. وتكفي هنا الإشارة إلى نتائج الدراسة التي قام بها فريق مختص محايد في إطار مرصد صحفي أشرفت عليه كفاءات دولية تستند إلى معايير علمية دقيقة للوقوف على مدى استهتار السلطات بنص القانون الانتخابي. فقد بينت هذه الدراسة أن بن علي استأثر بـ74% من تغطية شريط الأنباء للحملة الرئاسية. كما أن المرشحين الداعمين له أي محمد بوشيحة ومنير الباجي تمتعا على التوالي بـ12% و13% من تلك التغطية. أما محمد الحلواني الذي أعلن نفسه "المرشح المعارض الوحيد لبن علي" فلم يحظ إلا بـ1% من تلك التغطية (انظر تقرير الفريق)، مع العلم أن الإذاعة والتلفزة لا يتحدثان على مدار السنة في نشراتهما الإخبارية إلا عن بن علي.

وبما أن ما حصل لمحمد بوشيحة ومنير الباجي لا يعنينا كثيرا باعتبارهما قَبِلاَ من المنطلق القيام بدور "التياس" وهو ما جعلهما يشيدان بالظروف التي تمت فيها الحملة الرئاسية، فإننا سنكتفي بالتعرض لما حصل لمرشح "المبادرة الديمقراطية" باعتباره الأكثر دلالة على حقيقة سلوك السلطة. فقد منع محمد الحلواني من توزيع بيانه الانتخابي لأن محتواه لم يُرْضِ القصر. كما عُطِّل صدور المعلقات الحاملة لصورته لمدة ثلاثة أيام بدعوى أنها بالطول بينما المطلوب أن تكون بالعرض. ولم تبث كلمته في التلفزة والتي لم تدم سوى 20 دقيقة بينما دامت كلمة بن علي 75 دقيقة وأعيد بثها عدة مرات، إلا في اليوم الأخير للحملة (الجمعة 22 أكتوبر) وفي الساعة الثانية بعد الزوال أي في وقت لا يتواجد فيه الناس عادة أمام التلفزة. بينما بثت كلمة بقية المترشحين في نشرة الثامنة ليلا الإخبارية، مع العلم أن كلمة الحلواني لم تَحْوِ بحكم الرقابة أي نقد لترشح بن علي وللاستفتاء المزور الذي استند إليه. ولم يعقد الحلواني سوى أربعة اجتماعات بأربع دوائر من بين 26 دائرة وهي دوائر قفصة وصفاقس والمنستير وتونس. ولم تجلب هذه الاجتماعات المواطنين العاديين بل اقتصر فيها الحضور على الوجوه المعروفة بما فيها وجوه كثيرة، خاصة في اجتماع تونس، من أحزاب وتيارات نادت بمقاطعة الانتخابات. وقد حاول أنصار الحلواني الاحتجاج على التضييقات التي تعرض لها فخرج العشرات منهم يوم الخميس 20 أكتوبر إلى شارع بورقيبة وحاولوا التوجه إلى وزارة الداخلية ولكن البوليس الذي كان عدده يفوق عدد المتظاهرين منعهم من ذلك وأرغمهم على الاتجاه نحو مقر "حركة التجديد" بنهج لندرة مرورا بشارع باريس. ومن الملاحظ أنه لا البيان الانتخابي لمرشحي المبادرة في التشريعية ولا كلمات هؤلاء المرشحين في الإذاعة والتلفزة تمكنت من إثارة موضوع الانتخابات الرئاسية ونقد بن علي والطعن في ترشحه. ومن البديهي أن حملة رئاسية في مثل هذه الظروف وبمثل هذا الحجم المحدود جدا غير قادرة على التأثير في مجريات الأمور.

الانتخابات التشريعية: التجمع "يفصّل ويخيط" على مقاسه

أما "الانتخابات التشريعية" فقد أقصيت منها مسبقا الأحزاب غير المعترف بها وآلاف المواطنات والمواطنين المحرومين من حقوقهم المدنية والسياسية بسبب محاكمات الرأي التي تعرضوا لها خلال الخمس عشرة سنة الأخيرة. كما أن القائمات المستقلة أقصيت مسبقا من قسمة الـ37 مقعدا المخصصة سلفا لـ"المعارضة". لأن هذه المقاعد مخصصة للأحزاب وليس لمثل هذه القائمات. وإلى ذلك فقد أسقطت السلطات خمسا من قائمات الحزب الديمقراطي التقدمي الذي أدرج مشاركته في إطار "احتجاجي". وتهم هذه القائمات دوائر أساسية (تونس 1 و 2 وبن عروس وصفاقس2 وباجة.). وقد استعملت الإدارة طرقا غاية في الخساسة لإسقاط هذه القائمات مما يؤكد أنها لا تتورع عن استعمال التحيل وسيلة للتعامل مع المواطنين دون أن تجد من يحاسبها. فالمجلس الدستوري الذي التجأ إليه الحزب المذكور أعطى الحق للإدارة!! كما أسقطت عددا من قائمات "المبادرة الديمقراطية" بالضغط على بعض المرشحين وعلى عائلاتهم وترهيب البعض الآخر وترغيبه (تونس2، نابل، منوبة) أو بتعلات واهية كعدم التنصيص في مطلب الترشّح على مهنة رئيس القائمة والحال أنه قدّم نسخة من بطاقة تعريفه القومية (توزر…) حسب ما جاء في تصريحات مرشحي "المبادرة". وبالمقابل قدمت السلطات كامل العون لأحزاب الديكور الخاضعة لها بالتمام (حركة الديمقراطيين الإشتراكيين، حزب الوحدة الشعبية، الاتحاد الديمقراطي الوحدوي، الحزب الاجتماعي التحرري…) حتى تظهر بمظهر الأحزاب الحاضرة في الساحة السياسية والجديرة بما سيمنح لها من مقاعد في البرلمان ناهيك أن حركة الديمقراطيين الاشتراكيين التي أصبحت ظلا لتلك الحركة التي يعرفها التونسيون والتونسيات في الثمانينات وحزب الوحدة الشعبية الذي يعرف القاصي والداني حقيقة حجمه تقدّما في كافة الدوائر (26 قائمة). كما تقدم الاتحاد الديمقراطي الوحدوي والحزب الاجتماعي التحرري في 23 دائرة!!! وقد استعملت هذه الأحزاب أساليب خسيسة لجمع أعضاء قائماتها الانتخابية وصلت حدّ شراء خدمات بعض المرشحين!

ولم تختلف الحملة الانتخابية للتشريعية عن الحملة الرئاسية فقد استأثر الحزب الحاكم بكافة الفضاءات الإعلامية وقاعات الاجتماعات والأماكن العمومية لترويج "بضاعته" دون أدنى احترام لما جاء في القانون الانتخابي، بينما حُشر "منافسوه" في زاوية ضيقة للقيام بدور الديكور عن وعي أو غير وعي. لقد بينت الدراسة التي أشرنا إليها سابقا أن الجهات الرسمية حزبا وحكومة حُظيت بـ80,45% من التغطية التي قامت بها الإذاعة والتلفزة للحملة الانتخابية وبـ84,62% من التغطية التي قامت بها "الصحافة الوطنية" بينما لم تحظ "المبادرة الديمقراطية" إلا بـ0,74% من التغطية الإذاعية والتلفزية و2,84% من التغطية الصحفية والحزب الديمقراطي التقدمي على التوالي بـ0,07% و1%. وهو ما يبين حقيقة "المعاملة المتساوية" التي ينص عليها القانون. وإلى ذلك فقد حرم الحزب الديمقراطي التقدمي من توزيع بيانه الانتخابي وسُلّطت عليه ضغوط لـ"تعديله" ورغم قبوله في مرة أولى هذا التعديل فقد رفضته وزارة الداخلية قبل الموافقة عليه لكن الحزب كان قرر وقتها العودة إلى الصيغة الأولى لبيانه والتمسك بها. وحرم بعض رؤساء قائماته من الدقائق الإذاعية والتلفزية الخمس التي يكفلها لهم القانون. ولم يكن بوسع مناضلي هذا الحزب عقد اجتماعاتهم الانتخابية بحرية. إن الاجتماعات القليلة التي عقدوها في بعض الجهات تمت تحت المراقبة البوليسية ولم يحضرها سوى عدد قليل من المناضلين المعروفين. وهو ما دفع الحزب إلى الانسحاب من الحملة حتى لا يكون "شاهد زور" على مهزلة معلومة النتائج مسبقا.

أما "المبادرة"/حركة التجديد فلئن سمح لها بتوزيع البيان الانتخابي للتشريعية، وهو بيان مختلف في لهجته ومضمونه عن بيان الرئاسية الذي حجز، فقد حرم أربعة من رؤساء قائماتها من بث كلمتهم في التلفزة (باجة، المنستير، سوسة، سليانة…) كما أن العديد من هذه القائمات لم يتمكن أصحابها من عقد ولو اجتماع واحد بالمواطنين نتيجة للضغط البوليسي من جهة ولامبالاة المواطنين من جهة ثانية (بنزرت، قفصة…). وما عقد من اجتماعات لم يضم في أفضل الحالات سوى بضع عشرات من الأنصار لا غير مع العلم أن بعض هذه الاجتماعات أفسده أعوان النظام (أريانة، سليانة…).

وتجدر الإشارة إلى أنه طوال الحملة الانتخابية لم ينتظم لا بالإذاعة ولا بالتلفزة أي نقاش سياسي حول الانتخابات الرئاسية والتشريعية يواجه بين مختلف المواقف والأطراف. لقد كانت كل الحصص والملفات المقدمة تمجد بشكل وقح بن علي وحزبه "المؤمّن على التغيير". وقد كانت فرصة لبعض الوجوه المأجورة كي تتسابق في التملق و"التلحيس" ضمانا لبعض الامتيازات التي تتلقاها في شكل رشوة سياسية أو مادية. ولقد كان واضحا أيضا تواطؤ الأحزاب الإدارية مع القصر إذ أنها كانت راضية على "سير الحملة" و"حياد الإدارة"، قانعة بما توفر لها. وبطبيعة الحال فإن سلوكها هذا نابع من دور الديكور الموكول لها مقابل ما ستحصل عليه من مقاعد في البرلمان.

الاقتراع: "حاميها حراميها"

أما عملية الاقتراع التي تمت يوم 24 أكتوبر فحدّث ولا حرج. فقد أقصي منها مسبقا ما يزيد عن المليوني ناخبا لعدم تسجيل أسمائهم باعتبار أن الترسيم في القائمات الانتخابية في تونس ليس آليا. وكانت المكاتب التي يقارب عددها الـ13 ألف مكتبا تحت مراقبة أعوان الإدارة الموالين كما هو معلوم لبن علي وحزبه. وعلى ما يبدو فقد تكون بعض الأحزاب الإدارية تواطأت مع القصر حتى لا يحضر عنها أي مراقب. لقد أكد مَصْدر من أحد الأحزاب الإدارية أن المسؤول الأول عن الحزب أعطى تعليماته حتى لا تقدم قائمات المراقبين في الوقت القانوني لترفضها الإدارة فلا يحضر عن الحزب أي مراقب. كما أن المبادرة/التجديد أكدت أن السلطات رفضت قائمة الملاحظين التي قدمتها في "الآجال القانونية بدعوى أنها وصلت بعد إغلاق الإدارة في الساعة الثانية ظهرا. والحال أن نفس المصالح أعلمت عددا من رؤساء القائمات أن آخر أجل هو منتصف الليل تطبيقا للمجلة الانتخابية". وبطبيعة الحال فحتى لو قبلت قائمة الملاحظين هذه فإنها لن تكون قادرة إلا على تغطية النزر القليل من المكاتب لكثرتها. وبعبارة أخرى فقد كان الحزب الحاكم "اللاعب الوحيد" تقريبا في جل مكاتب الاقتراع. فقد كان الاقتراع يتم تحت عيون أعوان الإدارة من عمد وبوليس ومخبرين وأعضاء شعب. وفي حالة كهذه لم يكن من الضروري أخذ كافة الأوراق ودخول الخلوة. فقد كان الناخب العادي يأخذ الورقة الحمراء ويضعها في الصندوق خوفا من "العاقبة". كما تفاقمت هذه المرة ظاهرة التصويت بـ"النيابة". فقد كان البعض يصوّت نيابة عن أفراد عائلته وأقاربه وحتى جيرانه. ولكن أهم ما حصل هو بالطبع حشو صناديق الاقتراع في آخر وقت بالورقة الحمراء والتصويت نيابة عن ملايين المتغيبين. وقد تمت هذه العملية في بعض المكاتب بوقاحة لا توصف إذ لم يتورع المشرفون على هذه المكاتب عن حشو الصناديق بالورقة الحمراء أمام بعض مرشحي المعارضة (أريانة بحضور مرشح المبادرة). وفي حالات أخرى أخرج بعض الناخبين بالقوة لتتم العملية "في السر". وأخيرا وليس آخرا لم تتم عملية الفرز بصورة علنية وبحضور الملاحظين والمرشحين ومن يرغب من الناخبين كما ينص على ذلك القانون الانتخابي، بل تمت في السر لتتلاعب الإدارة بالأصوات وبالنسب كما يحلو لها. وقد كان التنافس على أشده بين أعوان السلطة لإظهار الولاء وفق لمبدأ "من يزور أكثر يحب بن علي وحزبه أكثر".

نتائج الانتخابات: إن لم تستح فافعل ما شئت!!

هذه فكرة عن الظروف التي تم فيها الفصل الأخير من المهزلة الانتخابية. وقد جاءت النتائج في حجم التزوير الذي رافق العملية الانتخابية من بدايتها إلى نهايتها. فقد زعمت السلطة أن نسبة المشاركة في الرئاسية والتشريعية قاربت الـ92%. وهي نسبة مثيرة للسخرية بل للقرف ودليل قاطع على أن الوقاحة في زمن بن علي لا حدود لها. وكم من ملاحظ وكم من إعلامي تساءل: لماذا التزوير بهذا الشكل المفضوح والوقح؟ ألم يكن أجدر ببن علي أن يزوّر في حدود معقولة و"ذكية"؟ ولكن هؤلاء نسوا أن الطغاة المتغطرسين يتصرفون دائما بغباء دون أن يقيموا وزنا للرأي العام في مجتمعاتهم وفي العالم فما يهمهم في المقام الأول هو الظهور بمظهر "المُجمَعِ عليهم" لأنهم يعتبرون الخروج عليهم "كفرا" أو "جريمة". إن نسبة المشاركة بشهادة الملاحظين المستقلين من إعلاميين تونسيين وأجانب ومن نشطاء حقوقيين، وكذلك بشهادة أطراف شاركت في المهزلة لا يمكن أن تتعدى في أفضل الحالات الـ25% أو 30%. وفي بعض المناطق سجل تدني نسبة المشاركة أرقاما قياسية (من 5 إلى 10% كما هو الحال في بعض المناطق بقفصة). وهذا الأمر يجد تفسيره في اللامبالاة التامة التي واجه بها الشعب التونسي مهزلة 24 أكتوبر لما ترسّخ لديه من قناعة، عبر تجاربه السابقة في ظل حكم حزب الدستور، بصورية الانتخابات. لذلك يمكن القول إن الشعب التونسي قاطع المهزلة. وهذه المقاطعة إن كانت عفوية، ولم ترفق بأعمال احتجاجية فإنها تعكس نوعا من القطيعة مع نظام بن علي. ولا يمكن مقارنة تدني نسبة المشاركة في بلادنا بمثيلتها في الديمقراطيات البرجوازية الغربية حيث تنزل نسبة المشاركة أحيانا إلى ما دون الـ50%. ففي هذه الحالة يعبر تدني نسبة المشاركة عن قرف الناخب أو الناخبة من السياسيين البورجوازيين الذين يغدقون عليهما الوعود خلال الحملات الانتخابية ولا ينجزون منها شيئا عند مسكهم بزمام السلطة. أما في تونس فإن تدني النسبة يعكس موقفا من نظام بن علي الدكتاتوري البوليسي الذي يحرمه حتى من تلك الحرية الشكلية التي يتمتع بها الناخب في البلدان الديمقراطية البورجوازية وتسمح له بأن يختار مرشحه كما تسمح لمرشحه بتبليغ صوته وتجرم التزوير وتعاقب مرتكبيه. ومما يؤكد كلامنا أن ما من مرة شعر فيها الشعب التونسي بوجود فجوة، قد تمكنه من التعبير عن إرادته، إلا وهب إلى المشاركة بأعداد كبيرة كما حصل في انتخابات 1981 و1989 التشريعية التي اضطرت السلطة إلى تزوير نتائجها للحفاظ على هيمنة الحزب الحاكم. وبعبارة أخرى فإن عدم اكتراث جماهير الشعب التونسي، عدا القلة القليلة ممن يسمون بـ"الناخبين المجبورين أو الناخبين التابعين"، بحثا عن مصلحة أو امتياز أو خوفا من بطش السلطات، يمثل عقابا لنظام بن علي ومؤشرا مهما لتغير الحالة الذهنية لعامة الشعب يمكن أن يستثمر مستقبلا في المعارك من أجل الديمقراطية. وما من شك في أن ما وصل المواطن (ة) خلال السنوات الأخيرة من مواد إعلامية ودعائية سواء عبر الفضائيات أو الإذاعات أو الصحف والبيانات والمناشير حول الاستفتاء والرئاسة مدى الحياة وكل مخططات الدكتاتورية قد لعب دورا حتى ولو كان غير مباشر في إثناء عامة الناس عن المشاركة في المهزلة.

كما أعلنت السلطات "فوز بن علي الساحق" على "منافسيه" في الرئاسية بنسبة تقارب الـ95% (94,48%) وهي نسبة دون الـ99% المعهودة ولكنها تبقى فوق الـ90%. ولا أحد يتصور أن ذلك نابع عن صندوق الاقتراع. فالعدول عن تكرار نسبة الـ99% طبخ بلا شك في قصر قرطاج بعد أن أصبحت هذه النسبة مسْخَرَةً في العالم أجمع بل يضرب بها المثل حين يراد الإشارة إلى التزوير. ثم إن النسبة المتبقية التي تفصل بن علي عن الـ99% "ما مشاتش في كرش عدو" كما يقول المثل. فقد منحت لمحمد بوشيحة (3,78%) صديق القصر وقريب ليلى بن علي (الطرابلسي) التي ما انفك تدخّلها في الحياة العامة يبرز رغم فقدانها لأي صفة رسمية، ناهيك أنها ختمت الحملة الرئاسية أمام "الألوف" من النساء المجتمعات بقصر المؤتمرات بالكرم. كما منحت لمنير الباجي (0,79%) الذي أثار ترشّحه وخصوصا ظهوره على شاشة التلفزة في وضع لا يحسد عليه عديد الانتقادات بل كان شاهدا إضافيا على الطابع المهزلي للانتخابات الرئاسية. وبهذه الصورة يكون بن علي وتيّاساه الرسميان حصلوا على 99,05%. أما النسبة الباقية أي 0,95% فقد عادت لمحمد الحلواني الذي رفض الانضباط لقواعد "التّيَاسَة".

وقد أثارت النسبة المتدنية التي حصل عليها هذا الأخير تساؤلات خصوصا لدى بعض أنصاره، الذين يعتقدون أنه حصل على نسبة أكبر لكن السلطات قزّمته لتظهره في مظهر هامشي مع العلم أن الحلواني قدم طعنا في نتائج الرئاسية لدى المجلس الدستوري المنصب كما هو معلوم فرفض هذا الطعن وأعلن أن "الانتخابات كانت شفافة والنتائج سليمة". وفي اعتقادنا فإن أصحاب المبادرة يريدون من وراء طرحهم لمسألة "التزوير" و"التقزيم" بهذا الشكل المتسم بالتضخيم، تبرير المشاركة وإظهار جدواها والإيهام بأنها لفّت قطاعات واسعة من الشعب حول مرشحهم ولكن السلطة حرمتهم جني ثمار ذلك الالتفاف. وهذا الطرح غير سليم لا فقط لكون نسبة المشاركة ضعيفة للغاية بل أيضا لكون معظم المشاركين من الناخبين "التابعين" أي الذين يذهبون إلى صناديق الاقتراع للتصويت لبن علي خوفا من السلطات (عمدة، بوليس، رئيس شعبة، معتمد، إلخ…) أو طمعا في بعض المكافآت (شغل، رخصة، قرض، إلخ…). لقد كانت اللعبة مغشوشة في كامل مراحلها وليس في نتائجها فحسب، بل إن حجم الغش الذي اتسمت به ما كان ليعطي غير تلك النتائج. وإذا كان لـ"المبادرة" من لوم توجهه فإلى نفسها أولا لقبولها الدخول في تلك اللعبة المغشوشة التي لا قدرة لها على التأثير في مجرياتها. وهو أمر نبّهنا إليه أكثر من مرة خلال نقاش موضوع الانتخابات مع مناضلين من المبادرة.

أما نتائج الانتخابات التشريعية فإنها لم تحمل من حيث ملامحها العامة أية مفاجأة. فنسبة المشاركة المعلنة تجاوزت الـ90% (91,45%) وهي نسبة كما سبق أن قلنا مزوّرة مثلها مثل نسبة المشاركة في الرئاسية وليس لهذا التزوير من هدف سوى إضفاء مصداقية زائفة على نتائج المهزلة. وكالمعتاد استحوذ الحزب الحاكم، التجمع الدستوري، على كافة المقاعد المطروحة للمنافسة، حسب المنظومة الانتخابية الساري بها العمل والتي لا يوجد لها مثيل في العالم. وتمثل تلك المقاعد 80% من مجموع مقاعد مجلس النواب وهو ما يمكن بن علي من مواصلة ممارسة هيمنته المطلقة على السلطة التشريعية، باعتبار أنه هو الذي اختار مرشحي حزبه "للانتخابات". وقد زعمت وزارة الداخلية أن التجمع حصل على 87.59% من الأصوات في حين حصلت الأحزاب الأخرى الستة المشاركة والقائمات السبع "المستقلة" التي تقدمت في 7 دوائر على 12,40% من الأصوات. وهي نسبة تظهرها في حالة عجز تام عن منافسة الحزب الحاكم، وعن الحصول على أي مقعد عن طريق صندوق الاقتراع أي بفضل الناخبين، وهو ما يؤهلها لشيء واحد فقط وهو الطمع في نصيب من المقاعد الـ37 المخصصة سلفا لأحزاب الديكور والتي يوزعها عليها بن علي وفق معيار الولاء والخدمات المقدمة وهو ما يجعل نواب تلك الأحزاب الـ37 معينين لا غير وبالتالي مدينين بوجودهم في مجلس النواب لبن علي. وإن أول ما يلاحظ في توزيع تلك المقاعد هذه المرة أنّ نصيب بعض الأحزاب قد ارتفع بينما تراجع نصيب البعض الآخر أو استقر على ما كان عليه. فحركة الديمقراطيين الاشتراكيين كسبت ثلاثة مقاعد جديدة مقارنة بعام 1999 فأصبح لها 14 نائبا. كما كسب حزب بوشيحة أربعة مقاعد جديدة فأصبح له 11 نائبا. وحافظ الاتحاد الديمقراطي الوحدوي والحزب الاجتماعي التحرري على نفس عدد المقاعد (7 للأول و2 للثاني). أما "حركة التجديد" فقد خسرت مقعدين فأصبح لها ثلاثة نواب عوضا عن 5 في الفترة النيابية السابقة. وليس خافيا على أحد أن بن علي أراد معاقبة محمد حرمل وجماعته على احتضانهم "المبادرة الديمقراطية" وبلورتهم خطابا نقديا نسبيا خلال حملتهم الانتخابية. وقد أقصي من القسمة الجديدة العناصر الثلاثة التي أظهرت حماسا للمبادرة وهم محمد حرمل ونجيب الحلواني شقيق محمد علي الحلواني ونورالدين المطوي، وحافظ عادل الشاوش وثامر إدريس النائبان السابقان على مقعديهما وأضيف إليهما نورالدين الطرهوني عن دائرة بنزرت الذي لم يقم حتى بحملة انتخابية شكلية في جهته بشهادة كل الملاحظين. وإن ما يستغرب في هذا الشأن ما صدر عن الهيئة السياسية لـ"حركة التجديد" في بلاغها الصادر بتاريخ 1 نوفمبر من احتجاج على "إقصاء مرشحيها في التشريعية وخاصة منهم الأمين العام لحركة التجديد". فكيف تعلن هذه الحركة التحاقها بالمعارضة الديمقراطية من جهة وتطالب بالانتفاع بما هو مخصص لأحزاب الديكور كرشوة سياسية من جهة أخرى؟

أما الملاحظة الثانية بخصوص هذه النتائج فهي أن بن علي حرص هذه المرة بشكل خاص على أن يكون نواب "المعارضة" الذين يرجع إليه وإلى مصالحه الأمنية الفضل في تعيينهم، من أكثر العناصر ولاء له من بين المرشحين للفوز برضاه. فالمطلع على قائمة "الفائزين" أو بالأحرى المعينين يلاحظ أنه لا يوجد بينهم عنصر واحد يتمتع بحد أدنى من الاستقلالية أو الإشعاع أو المصداقية. ولا نعتقد أن هدف بن علي من ذلك ينحصر فقط في رغبته في تحقيق "إجماع تام" حوله في مجلس النواب يجنبه انفلات بعض الأصوات كما حصل في الفترتين النيابيتين السابقتين وإقدامها، نتيجة ظروف معينة (إيقاف محمد مواعدة عام 1995..) على نقد بعض سياساته خاصة في مجال الحريات، ولكنه يتجاوز ذلك إلى رغبته في ضمان أن أيًّا من النواب المختارين لن يقدم في عام 2009 على تزكية أي مرشح مستقل للرئاسة بما أن القانون الانتخابي الحالي يشترط الحصول على تزكية 30 نائبا في البرلمان وبالتالي فإن الـ37 "نائبا معارضا" في الفترة النيابية الحالية قادرون نظريا على مثل تلك التزكية وهو ما يريد بن علي ضمان عدم حصوله من الآن بتعيين عناصر يقدر على التحكم فيها بسلاحيه المعهودين: الإرشاء والتخويف أو الترغيب والترهيب.

نتائج "الانتخابات" تعمّق أزمة شرعية النظام

تلك هي نتائج "انتخابات" 24 أكتوبر التي أجمعت وسائل الإعلام المستقلة في العالم أجمع على طابعها المهزلي. فسواء في تونس أو في الخارج كان التعليق واحد وهو أن ما حصل لا هو انتخابات ولا هو حتى ما يشبه الانتخابات بل تزوير في تزوير. وإذا كان بن علي وحزبه قد خرجا فائزين على الورق من هذه المهزلة وبنسب شبه خيالية تعكس ضخامة التزوير فإنهما خرجا منها خاسرين على طول الخط من الناحية السياسية إذ أنها عمقت أزمة الشرعية التي يعاني منها حكمهما. فمن يجرؤ اليوم على القول بأن حكم بن علي وحزبه يستمد شرعيته من صندوق الاقتراع أي من الشعب دون أن يثير السخرية؟ لقد ازدادت الدكتاتورية النوفمبرية افتضاحا والهوة القائمة بينها وبين الشعب اتساعا. وسقطت كل الأوهام عن إمكانية "إصلاح" هذه الدكتاتورية و"مقرطتها". وإذا كان ثمة من منتفع مما وقع فليس الشعب بدون أدنى شك وإنما الأقلية الفاسدة والنهابة التي تسند بن علي وتطالبه بالبقاء في الحكم لأنها تدرك أن تغيير الحكم في تونس وإقرار مناخ من الحريات وخاصة منها حرية التعبير والصحافة وضمان استقلالية القضاء سيؤدي حتما إلى مساءلة أفرادها عن مصادر الثروة غير المشروعة التي جمعوها وعن الجرائم التي ارتكبوها على حساب تونس وشعبها. وهو ما يخشاه بن علي ذاته شأنه شأن كل الطغاة. فبقاؤه في الحكم عن طريق التزوير هو الضمان الوحيد لإفلاته من المحاسبة رغم أنه حوّر الدستور وأدخل فيه فصلا يمنحه الحصانة القضائية مدى الحياة ولكنه يعلم أن هذا الفصل لن يجديه نفعا إذا نهض الشعب وهبّ للتعبير عن إرادته. وتمثل الدول والشركات والمؤسسات المالية الامبريالية المنتفع الآخر من المهزلة الحاصلة لما تجده في نظام بن علي من ضمان لمصالحها الاقتصادية (نهب البلاد واستغلال شعبها) والسياسية والاستراتيجية (دعم المشاريع الامبريالية في المنطقة…). وهو ما يفسر صمت واشنطن وباريس وغيرهما من العواصم الغربية على تغيير بن علي الدستور في عام 2002 لتأمين بقائه في الحكم مدى الحياة في حين أنهما أقامتا الدنيا على تعديل البرلمان اللبناني الدستور لتمكين أمين لحود من نيابة جديدة بثلاث سنوات لأنهما لا يجدان فيه الأداة الطيعة المناسبة لخدمة مصالحهما ومصالح الكيان الصهيوني. كما أنه يفسر ابتهاج شيراك وحكومته والاتحاد الأوروبي عامة بنتائج "الانتخابات" وتوجيههم التهاني لبن علي في حين أن هذه الأطراف تحتج علنا على التزوير في أوكرانيا وترفض النتائج المعلنة مما يؤكد أن المصالح عندها هي المعيار للحكم على نزاهة الانتخابات في هذا البلد أو ذاك. أما النقود التي عبرت عنها الخارجية الأمريكية لسير الحملة ولنتائج المهزلة، فهي مجرد ذر للرماد في العيون. فإدارة بوش تسعى بتلك النقود المحتشمة إلى التغطية على المجازر التي ترتكبها في العراق للإيهام بأنها جادة في تكريس مشروع "إقامة الديمقراطية في الشرق الأوسط الكبير".

المقاطعة أمِ المشاركة: أيهما كان أقرب من الذهنية العامة للشعب؟

ولكن السؤال التقليدي الذي يطرح نفسه بعد المهزلة التي عشناها بعد 24 أكتوبر هو "ما العمل؟" لتجاوز التحليل والتوصيف إلى الفعل للتأثير في مجرى الأحداث وخلق موازين قوى جديدة تمكّن من وضع حد للدكتاتورية ومهازلها ومن فرض إرادة الشعب وتكريس سيادته؟

قبل الرد على هذا السؤال لا بد من الإشارة إلى أن القوى الديمقراطية واجهت مهزلة 24 أكتوبر 2004 بصفوف مشتتة. فقد انقسمت في مستوى أول بين مقاطعة ومشاركة. وقد شملت المقاطعة معظمم الأحزاب السياسية (حزب العمال والتكتل الديمقراطي وحزب المؤتمر من أجل الجمهورية والتحق بها الحزب الديمقراطي التقدمي قبل انتهاء الحملة الانتخابية بيومين) ومختلف التيارات اليسارية من وطنيين ديمقراطيين ووطنيين ديمقراطيين بالجامعة وشيوعيين ثوريين وقوميين وبعثيين وقسما واسعا من المستقلين، مع العلم أن حركة النهضة الإسلامية كانت دعت بدورها إلى المقاطعة. وهذه أول مرة تقاطع فيها قوى وتيارات سياسية بمثل هذا العدد وبمثل هذا التنوع انتخابات رئاسية وتشريعية وهو ما يعكس نوعا من التجذر السياسي في الساحة هو نتيجة لما راكمته الحركة الديمقراطية من تجربة في النضال ضد الدكتاتورية خلال الخمس عشرة سنة الأخيرة. ولم تشمل المشاركة في آخر المطاف سوى حركة التجديد ومجموعة "الشيوعيين الديمقراطيين" وقسما من العناصر المستقلة "اليسارية" و"الليبيرالية". ولكن لا المقاطعون ولا المشاركون (المبادرة والحزب الديمقراطي قبل انسحابه) تمكنوا من تكريس موقفهم في إطار جبهة موحدة. فالخلافات شقت كلا الفريقين لأسباب سياسية وفئوية. وقد أدى كل ذلك إلى عجز الحركة الديمقراطية بمختلف مكوناتها عن التأثير في مجرى الأحداث والبروز كقطب يعمل على أن يكون بديلا للنظام الدكتاتوري.

إن ما يمكن تأكيده بعد انتهاء المهزلة هو أن الحركة الديمقراطية كان بإمكانها أن تحتل موقعا أفضل في مجرى الأحداث لو أنها قاطعت هذه المهزلة بصفوف موحّدة. فقد بينت التجربة أن المقاطعة لم تمثل موقفا سياسيا سليما يبرره غياب أدنى شروط الانتخابات الحرّة فحسب ولكنها تمثل أيضا موقفا مناسبا للحالة الذهنية لعامة الشعب. فهذا الأخير قاطع المهزلة كما سبق أن بيّنا ذلك لأنه كان يدرك مسبقا أن نتائجها معلومة وأن صوته لا قيمة له وأن إرادته مداسة. وقد كان من شأن مقاطعة موحدة نشيطة أن تقرب القوى الديمقراطية من الشعب وتزيد في عزلة الدكتاتورية وتتركها تتحرك مع ديكورها الذي لا يتمتع بأية مصداقية. ولقد كنا نحن في حزب العمال بدأنا الدعوة إلى المقاطعة منذ أكثر من عام ونصف وسعينا بكل الوسائل (جريدة، بيانات، مناشير، تدخلات مباشرة…) إلى إبلاغ موقفنا هذا إلى جماهير الشعب حتى نكون قريبين من اهتماماتها ومشاغلها. كما أننا عملنا كل ما في وسعنا لإقناع مختلف فصائل الحركة الديمقراطية بضبط خطة مشتركة للقيام بمقاطعة نشيطة واستغلال كل الفضاءات العلنية والقانونية لذلك الغرض لكن موقفنا هذا لم يجد الصدى الكافي لدى الأطراف المعنية.

كما بينت التجربة أن المشاركة في المهزلة لم تكن موقفا سليما بل موقفا غذته أوهام سياسية مؤسسة على تقديرات خاطئة للأوضاع وليس أدل على ذلك من أن الحزب الديمقراطي التقدمي الذي كان أول من دافع عن المشاركة من "موقع احتجاجي" وحدد لمشاركته هذه هدفا متواضعا يتمثل في محاولة تعبئة النخبة و"جرّها" إلى الاهتمام بالشأن العام، دون وهم عن نتائج المهزلة، قد اضطر إلى الانسحاب خلال "الحملة الانتخابية "حتى لا يكون "شاهد زور" كما جاء على لسان أمينه العام، بعد أن تيقن أن تحقيق ذلك الهدف على تواضعه غير ممكن نتيجة القيود التي فرضتها السلطة على حزبه. وما من شك في أن هذا الانسحاب أسهم في مزيد فضح اللعبة.

ولا نعتقد أن "المبادرة الديمقراطية" التي فضّلت المشاركة حتى النهاية قد قدرت على تعبئة الجماهير وإقناعها بـ"المشاركة" وبجدواها. صحيح أن أنصار "المبادرة" سعوا في بعض الدوائر إلى تخطي بعض القيود التي فرضتها عليهم السلطة: توزيع كمية من بيان محمد علي الحلواني الممنوع، تنظيم مسيرة بالعاصمة ضمت العشرات للاحتجاج على حجز البيان الخ… ولكن هذه التحركات بقيت جزئية للغاية ولم تغير شيئا من واقع الأمور بل إن مقابلها كان باهظا. فقد وظفت السلطة تلك المشاركة لإضفاء طابع تعددي زائف على مهزلة معلومة النتائج مسبقا. لقد ارتكب أنصار "المبادرة" خطأين. الأول يتمثل في دعوتهم إلى المشاركة في انتخابات رئاسية يعرفون مسبقا أنها مزورة. فقد قامت على تعديل دستوري غير شرعي وغير مشروع يسمح لبن علي بالترشّح لولاية رابعة تفتح له باب الرئاسة مدى الحياة. كما يسمح له بتعيين منافسيه في المهزلة. وهذا ما يجعل انتخابات أكتوبر 2004 مختلفة عن سابقاتها. فقد كانت المشكلة في 1994 و1999 تتمثل في غياب تعدد الترشّحات للرئاسة وكان المطلب: حرية الترشّح. أما هذه المرة فقد انضاف عنصر جديد خطير وهو انقلاب بن علي على الدستور من أجل الرئاسة مدى الحياة إضافة إلى مواصلة سدّه الباب أمام حرية الترشّح عدا لمن اختارهم لـ"منافسته"، وبهذه الصورة أصبح شرط الانتخابات الرئاسية الحرة مزدوجا: عدم ترشح بن علي وحرية الترشح للآخرين وهو الشرط الذي لم يتوفر مما يجعل من المقاطعة موقفا ضروريا لأن المشاركة في إطار الانقلاب المذكور ووفقا لمقتضياته تعني، أحب أصحابها أم كرهوا، تشريعه. وهذا ما لا يريد أن يفهمه دعاة المشاركة الذين لم يدركوا أن مشاركتهم إلى جانب بن علي وهم يعلمون مسبقا أنهم غير قادرين على سد الطريق أمام بقائه في الحكم أو على الأقل إحداث أزمة هي موضوعيا تشريع للتزوير مهما كان الخطاب المرافق لتلك المشاركة. وإذا كان موقف البعض منهم ليس مفاجئا بما أنه اعتاد على المشاركة في كل المهازل في نطاق "الوفاق" مع الدكتاتورية فإن مشاركة بعض الأطراف الأخرى التي كانت نددت علنا بالاستفتاء هو الباعث على الاستغراب.

وما قلناه عن الرئاسية يمكن أن ينسحب في وجه منه على التشريعية إذ أن الظروف التي جرت فيها هي نفس الظروف ولم تخرج نتائجها على ما كان متوقعا. لقد بررت "المبادرة" مشاركتها في هذه المهزلة بكونها اختارت نهج "العمل الميداني" و"الاتصال المباشر بالشعب" على "البقاء فوق الربوة". وعلاوة على كون هذا الخطاب سمعناه في كل المهازل الانتخابية السابقة حتى على لسان من كانوا يتواطأون مع الدكتاتورية ويدعمون سياساتها ويتلقون مكافآتها، فإن "العمل الميداني" و"الاتصال المباشر بالجماهير" لا يمكن أن يكون بالنسبة إلى أي حزب جدي، يدافع بحق عن مطالب الجماهير وطموحاتها نشاطا مناسباتيا، مرة كل خمس سنوات وفي إطار القيود التي تفرضها الدكتاتورية، بل هو نشاط يومي ودائم حتى وإن تكثف في بعض المناسبات. كما أنه نشاط لا يخضع لقيود الدكتاتورية بل يتجاوزها وفقا لمبدأ "حقوقنا نمارسها ولا ننتظر ترخيصا من وزارة الداخلية". ثم إنه لا يمكن للمرء أن يضحي بالهدف من أجل مكاسب جزئية ومحدودة ذات طابع دعائي، فالعمل الميداني والاتصال المباشر بالجماهير ينبغي أن يرتبط بهدف أو أهداف تخدم حقا مصلحة هذه الجماهير في نطاق موازين القوى الموجودة. إن مبدأ "الهدف لا شيء والحركة كل شيء" هو مبدأ انتهازي معروف، يضخم الحركة ليطمس طبيعة الإطار الذي تندرج فيه والأهداف التي تخدمها. فهل يعقل أن يشارك المرء في انتخابات يقول إنها مزورة ومعلومة النتائج مسبقا بدعوى استغلالها للقيام بشيء من الدعاية المقيّدة بحدود صارمة من الدكتاتورية وهو لا يملك القدرة، بسبب الظروف الموضوعية والذاتية لتكسير هذه القيود؟ لقد كان بالإمكان لو توحدت الحركة الديمقراطية حول موقف المقاطعة وجندت نفسها لتكريسه مستغلة كافة الإمكانات القانونية وغير القانونية أن تقوم بأضعاف أضعاف ما قام به هذا الطرف أو ذاك من الأطراف المشاركة وأن تكون النتائج أفضل في علاقة بالشعب.

أما الخطأ الثاني الذي ارتكبه أنصار موقف المشاركة فيتمثل في عدم تقدير موقف عامة الشعب من المهزلة التقدير الصحيح. لقد بينا أن الشعب لم يكترث بهذه المهزلة وقاطعها عمليا. وهذه المقاطعة حتى وإن كانت سلبية فهي تمثل عنصرا إيجابيا من زاوية كونها تعكس عدم ثقة بنظام بن علي ومهازله الانتخابية. وفي حالة كهذه فإن مهمة القوى الديمقراطية الحقيقية لا تتمثل في حث جماهير الشعب على المشاركة في مهزلة لا تثق بها وفي زرع الأوهام في صفوفها بل في تعميق عدم الثقة تلك لدى الجماهير ودعوتها إلى تجاوز سلبيتها بتحويل عدم رضاها والنقمة التي تستبطنها إلى فعل سياسي بهدف المطالبة بالحقوق المسلوبة.

إن جماهير الشعب لم تكن في حاجة خلال الانتخابات الأخيرة إلى من يقنعها بالتجاوزات التيارتكبتهاالسلطةفي كامل مراحل العملية الانتخابية أو بعدم جديتها في تنظيم انتخابات حرة ونزيهة لأنها كانت تدرك سلفا أن تلك الانتخابات مهزلة معلومة النتائج مسبقا وأن بن علي ليس له من هدف سوى البقاء في الحكم مدى الحياة، ولكنها كانت ولا تزال في حاجة إلى من ينظم صفوفها ويسلحها ببرنامج وتكتيك سليم ويقنعها بجدوى النضال ويعطيها المثال في التضحية من أجل مطالبها وطموحاتها. وهذا العمل لا يمكن أن يكون مناسباتيا ولا مقيدا بالحدود التي ترسمها الدكتاتورية. ولا نعتقد أن أنصار المبادرة ليسوا على بينة من أن دعواتهم إلى المشاركة لم يكن لها صدى في صفوف المواطنين. فهم أنفسهم يؤكدون تدني نسبة المشاركة.

النضال من أجل سلطة تستمد شرعيتها من الشعب

ومهما يكن من أمر فإننا ندرك تمام الإدراك أن الجدال حول المقاطعة والمشاركة لن ينتهي. لذلك علينا أن نركز الآن على ما بعد المهزلة الانتخابية للبحث في آفاق العمل المشترك خصوصا أن الاقتناع بالحاجة إليه أصبح أكثر حدة اليوم في صفوف المناضلين الديمقراطيين المنظمين والمستقلين على حد السواء. والتعامل مع هذه المسألة هو الذي سيبين اليوم إن كان الاختلاف حول المقاطعة أو المشاركة نابع من مجرد تقديرات مختلفة للظرف التكتيكي وللأشكال النضالية التي يقتضيها أم أنه أعمق من ذلك وله صلة بمفهوم النضال الديمقراطي وآفاقه. كما أنه سيبين من هي الأطراف الأشد حرصا على وحدة الحركة الديمقراطية وتقدمها.

ومن النافل أن الوحدة لا يمكن أن تكون هدفا في حد ذاتها بل هي وسيلة لتحقيق مهمة أو مهمات مشتركة تستجيب لمقتضيات المرحلة التي يمر بها الصراع بين قوى الحرية والتقدم من جهة والقوى الرجعية والفاشستية من جهة ثانية. فما هي المهمات التي تمليها إذن مرحلة ما بعد المهزلة الانتخابية التي عرفتها بلادنا في 24 أكتوبر الماضي؟

إن من يطلع على البيانات والتصريحات التي عقبت هذه المهزلة يلاحظ إجماع مختلف الأحزاب والتيارات الديمقراطية والمعارضة بشكل عام على إدانة ما حصل.فالأحزاب الأربعة التي قاطعت الانتخابات وهي حزب العمال والتكتل الديمقراطي وحزب المؤتمر من أجل الجمهورية والحزب الديمقراطي التقدمي أصدرت بيانا بتاريخ 26 أكتوبر تطعن فيه "في نتائج هذه الانتخابات المزورة في كل مراحلها" وتدعو "كافة القوى الديمقراطية إلى رفضها" مذكرة بأن هذه النتائج "نتاج طبيعي" للتلاعب بالدستور وإرساء الرئاسة مدى الحياة وإقصاء القوى السياسية المعارضة من المنافسة وغياب مناخ من الحرية والاطمئنان" وهو ما يعني "فقدان الشروط الدنيا لانتخابات حرة". أما "المبادرة الديمقراطية" فإنها وإن لم تصدر بعد تقييما رسميا للانتخابات فقد تحدثت في تغطية الانتخابات في صحيفة "الطريق الجديد" عن "عملية تزوير واسعة النطاق نفذت على مراحل وأدت في النهاية إلى تزييف الانتخابات وإلى التصريح بنتائج ونسب تصويت خيالية لا تمت إلى الحقيقة بصلة" (الطريق الجديد، 1 نوفمبر 2004، ص6). واكتفت "حركة التجديد" في البلاغ الصادر عن الهيئة السياسية بتاريخ 31 أكتوبر بالإشارة إلى "الخطورة البالغة" التي اكتساها ما جرى في انتخابات 24 أكتوبر لما اتسم به "من خرق واضح للقوانين والشفافية واستخفاف صارخ بصندوق الاقتراع وأصوات الناخبين والناخبات". وسواء تعلق الأمر بالمبادرة بشكل عام أو بـ"حركة التجديد" بشكل خاص فإنه لم يصدر إلى حد الآن الموقف السيّاسي المناسب الذي يترتب عن توصيف الانتخابات بالتزوير والنتائج بالتزييف: فهل هما يقبلان بنتائج الرئاسية والتشريعية المزورة؟ وهل هما يطعنان في شرعية المنتفع بهذا التزوير؟ وهل أن رئاسة بن علي شرعية أم غير شرعية؟ وهل أن مجلس النواب الحالي شرعي أو غير شرعي؟ وما هو الموقف من تواجد ثلاثة ممثلين للمبادرة بهذا المجلس والحال أن الجميع يدرك أن تواجدهم هذا لم ينبع من صندوق الاقتراع بل من عملية التزوير الشاملة والمنهجية وعن تعيين القصر ووزارة الداخلية؟

وفي حقيقة الأمر فإن الإجابة عن هذه الأسئلة إما أنها ستقرّب طرفي المقاطعة والمشاركة في الحركة الديمقراطية وتُظهر أن الخلاف بينهما جزئي وظرفي نابع عن تقديرات مختلفة أو أنها ستبعدهما عن بعضهما وتظهر أن الخلاف بينهما هو فعلا خلاف عميق، يعكس نهجين مختلفين في النضال من أجل الديمقراطية في بلادنا، لأن المهمة المركزية للحركة الديمقراطية في المرحلة القادمة مرتبطة شديد الارتباط بالموقف من النتائج المترتبة عن التزوير المنهجي والشامل للعملية الانتخابية منذ استفتاء 2002 إلى اقتراع يوم 24 أكتوبر الماضي. فالمنطق السياسي السليم يقتضي بأن لا يتوقف المرء عند وصف ما حصل بالتزوير والتزييف بل من الضروري أن يخرج من ذلك بالاستنتاج الضروري وهو أن "ما بني على الباطل فهو باطل". وبعبارة أخرى فإن السلطة الناتجة عن التزوير والتزييف هي سلطة غير شرعية. فلا رئاسة بن علي المؤسسة على استفتاء صوري وانتخابات مزورة شرعية. ولا المؤسسات التي سيعينها شرعية. ولا مجلس النواب المؤسس على انتخابات مزورة شرعي. معنى ذلك أن هذه المؤسسات لا تعكس إرادة الشعب عبر انتخابات حرة ونزيهة. وعلى هذا الأساس فإن المهمة المركزية للحركة الديمقراطية في المرحلة القادمة تصبح واضحة وهي النضال من أجل إقامة سلطة تتمتع بالشرعية. وهذه الشرعية لن تتأتى إلا عن طريق صندوق الاقتراع أي عن طريق انتخابات حرة ونزيهة. وهذه الانتخابات لها شروطها الدنيا وهي حرية التنظم أي التعددية السياسية وحرية الدعاية أي التعددية الإعلامية وحرية الترشّح والانتخاب والإشراف المستقل على العملية الانتخابية فضلا على حياد الإدارة واستقلالية القضاء.

وبطبيعة الحال فإن تحقيق هذا الهدف المرحلي -لأن لا أحد يزعم اليوم أنه مطروح للإنجاز "الآن وهنا"- يمر عبر نضال يومي، مباشر، من أجل مطالب واضحة تتم حولها تعبئة أوسع جماهير الشعب وتكتيل واسع للقوى الديمقراطية، يسمح تدريجيا بخلق موازين القوى الضرورية لبلوغ ذلك الهدف. وهذه المطالب المباشرة تشمل العفو التشريعي العام وإلغاء كل ما يبيح الرئاسة مدى الحياة ويحصن رئيس الدولة من المحاسبة القضائية ويمنع حرية الترشّح للرئاسة. كما تشمل إلغاء ترسانة القوانين الفاشية وتحرير وسائل الإعلام من هيمنة الحزب الحاكم وإخضاع الإذاعة والتلفزة لإشراف مستقل والاعتراف بكافة الأحزاب والجمعيات الراغبة في ذلك وإلغاء المجلة الانتخابية الحالية ووضع أخرى جديدة تضمن حرية الترشّح والانتخاب، وتنص على نظام انتخابي جديد كفيل بإفراز مؤسسات ممثلة لإرادة الشعب (التمثيل النسبي، القائمات الإسمية…) وتعهد بمراقبة الانتخابات لهيئة مستقلة، وتجرّم التزوير واستقلالية القضاء وفصل الإدارة عن الحزب الحاكم إلخ…

إن هذا التمشي مهم للغاية لأنه مدخل أساسي للنضال ضد الدكتاتورية لزعزعة أسسها وتقويضها من أجل إقامة نظام ديمقراطي. وهو تمشٍّ يرتقي بالحركة الديمقراطية إلى مستوى طرح مسألة السلطة محورا لنضالها كما يسلح جماهير الشعب بهدف واضح وشعار مركزي تتعبأ حوله. ومن شأن ذلك أن يقود في صورة النجاح إلى حركة جماهيرية قوية قادرة على الانتصار سواء اتخذت هذه الحركة شكل انتفاضة أو عصيان مدني كما نرى ذلك في العديد من البلدان التي تمكنت شعوبها من إسقاط الدكتاتوريات التي تسلبها حريتها. أما أن يسجل المرء احتجاجه على التزوير والتزييف ثم ينصاع من جديد إلى الأمر الواقع ويقصر تحركاته على مطالب جزئية دون أفق واضح في انتظار المشاركة في مهزلة جديدة (بلديات 2005 أو رئاسية وتشريعية 2009) بدعوى أن موازين القوى لا تسمح بغير ذلك فهو سقوط في نهج إصلاحي انتهازي خبرته الحركة الديمقراطية في تونس وهو نهج لا يخدم سوى مصالح الدكتاتورية. إن اختلال موازين القوى في الظرف الراهن لا يمنع حركة ديمقراطية جديرة بهذا الاسم من رسم أهدافها المرحلية التي تسعى إلى تحقيقها وفق خطة تأخذ بعين الاعتبار حالة تلك الموازين وتعمل على تغييرها تدريجيا. وهنا تكمن في الحقيقة إحدى نقاط التباين الجوهرية بين ما يمكن أن يشكل خطين أساسيين في الحركة الديمقراطية: الخط الديمقراطي المتماسك والخط الانتهازي المهادن للدكتاتورية.

هذا رأينا في مرحلة ما بعد المهزلة الانتخابية وهو رأي تناولنا فيه الجانب السياسي بشكل خاص لمحوريته أولا ولأنه يجمع قوى عديدة ثانيا. ومن البديهي أن النضال على هذه الواجهة المحورية لن يؤتي أكله إلا إذا ارتبط ارتباطا وثيقا بالنضال على الواجهات الأخرى الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وأخذ فيه بعين الاعتبار البعدين الوطني والاجتماعي مع الدكتاتورية. فهذه المعركة ليست فقط من أجل الحرية والديمقراطية بل هي أيضا معركة ضد الفساد والاستغلال والتبعية وهي محاور تشغل بال الشعب التونسي وقادرة على تعبئته أيما تعبئة. ونحن نعتقد أن عقد ندوة وطنية للقوى الديمقراطية في أقرب الآجال لمناقشة آفاق النضال الديمقراطي في بلادنا بعد المهزلة أمر على غاية من الأهمية حتى لا تترك القوى الديمقراطية الحقيقية الفرصة للدكتاتورية لتلتف على ما خسرته سياسيا في مهزلة 24 أكتوبر الماضي. ومساهمة منا في دفع النقاش حول مضمون البديل الديمقراطي المنشود نقدم في ما يلي مقترحات حزب العمال بخصوص البرنامج المرحلي الأدنى الذي من شأن تحقيقه أن يعبد الطريق أمام مجتمعنا وبلادنا لكي يتخلصا من الدكتاتورية والاستغلال والنهب والتبعية.


الصفحة الأساسية | خريطة الموقع | البريد الالكتروني