الصفحة الأساسية > كتب ومنشورات > مقررات حول الأوضاع الدولية والعربية والمحلية الراهنة
مقررات حول الأوضاع الدولية والعربية والمحلية الراهنة
حول الوضع الدولي الراهن - من أجل جبهة عالمية معادية للامبريالية:
حول الوضع الدولي الراهن - من أجل جبهة عالمية معادية للامبريالية

1 – لا يزال العالم يعيش على وقع الحرب الامبريالية العدوانية التي شنها التحالف الأمريكي البريطاني على العراق والتي مثلت منعرجا هاما في الوضع الدولي الراهن. فقد شنت الولايات المتحدة هذه الحرب رغم معارضة مجلس الأمن ومعظم دول العالم (بما في ذلك حلفاء واشنطن التقليديون) وكافة الشعوب. وهي لم تتوان عن ارتكاب أبشع الجرائم على حساب الشعب العراقي وعلى حساب الانسانية جمعاء. كما أنها تحتل اليوم البلاد وتضعها تحت إدارتها العسكرية المباشرة وتتصرف فيها بصفتها مستعمرة من مستعمراتها خاصة بعد أن خضع مجلس الأمن لإرادتها وفوض لها التصرف في شؤون العراق اقتصاديا وسياسيا.

2 – ولم يعد خافيا أن الهدف من هذه الحرب ليس البحث عن أسلحة الدمار الشامل التي لم يعثر لها على أثر إلى حد الآن ولا هو الدفاع عن الشرعية الدولية التي داستها الإدارة الأمريكية أو الدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان التي قدمت الجيوش الأمريكية والبريطانية شواهد بليغة على الإيغال في انتهاكها، بل الاستيلاء على المخزون النفطي العراقي الكبير (12%من المخزون العالمي) وفرض السيطرة العسكرية والسياسية والاقتصادية التامة على منطقة الشرق الأوسط الاستراتيجية وضمان أمن الكيان الصهيوني وهيمنته إقليميا وتدعيم الهيمنة الأمريكية على العالم.

3 – وعلى هذا الأساس فإن هذه الحرب لا يمكن فهمها الفهم الصحيح إلا بإدراجها في نطاق السياسة الامبريالية العامة القائمة على إعادة اقتسام مناطق النفوذ. إن تاريخ الامبريالية منذ ظهورها في النصف الثاني من القرن التاسع عشر هو تاريخ اقتسام وإعادة اقتسام مناطق عن طريق الحرب. والامبريالية الأمريكية التي خرجت منتصرة من "الحرب الباردة"، وجدت نفسها القوة العظمى الوحيدة في الساحة الدولية. لذلك ما انفكت تسعى إلى استغلال هذا الظرف الاستثنائي لبسط هيمنتها على العالم قبل أن تبرز قوة منافسة لها، مستغلة قوتها التكنلوجية والمالية وتفوقها العسكري وتحكّمها في المؤسسات الدولية المالية والاقتصادية والتجارية والسياسية والعسكرية.

4 – إن الحروب التي شنتها الولايات المتحدة منذ مطلع التسعينات سواء في إطار تحالف (العراق، يوغسلافيا،...) أو منفردة (هايتي، باناما...) وسواء في إطار الأمم المتحدة أو خارجها تدخل ضمن هذا التوجه الهيمني. فهي تريد وضع يدها على مناطق نفوذ القوة العظمى المنهارة (الاتحاد السوفياتي) وحتى على مناطق نفوذ حليفاتها. ولكن ما يميز هذه الفترة هو أن الامبريالية الأمريكية ظلت تعمل، في سعيها إلى إقامة "نظام عالمي جديد" أحادي القطبية وخاضع لهيمنتها، في توافق نسبي مع حليفاتها ودون أن تضع بشكل سافر وعنيف نتائج الحرب العالمية محل مراجعة.

5 – إن أحداث 11 سبتمبر 2001 مثلت منعرجا في السياسة الأمريكية الخارجية. لقد استغلت واشنطن هذه الأحداث لتسرع في نسق تكريس سياستها الهيمنية وتزداد شراسة وعدوانية وتفرض واقعا دوليا جديدا يتماشى مع أهدافها. ويمكن القول إن عاملين اثنين ساعدا على إفراز هذا التوجه وهما: أولا مرور الاقتصاد الأمريكي بصعوبات جمة تظهر من خلال تفاقم عجز ميزانية الدولة وميزان الدفوعات وتفاقم المديونية العامة وترادجع قيمة أسهم الشركات الأمريكية وإفلاس البعض من كبرياتها. وتمثل الحرب بالنسبة إلى الامبريالية وسيلة أساسية من الوسائل التي تعتمدها في مواجهة أزماتها.

أما العامل الثاني فيتمثل في وصول فريق محافظ، متطرف يمثل خاصة لوبيي البترول والسلاح، إلى البيت الأبيض. وقد وجد هذا الفريق في الأحداث المذكورة الفرصة الذهبية لتنفيذ مخططات عدوانية تدعم الهيمنة الأمريكية على العالم. وقد كان بعض هذه المخططات (مثل غزو العراق) جاهزا منذ سنوات.

6 – إن عقيدة الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن التي جاءت ملخصة في وثيقة "استراتيجية الأمن القومي" تنادي بهيمنة الامبريالية الأمريكية الشاملة على العالم. وهذه الهيمنة لا تعني الاستيلاء على مناطق نفوذ الاتحاد السوفياتي سابقا والتسرب إلى مناطق الحليفات التقليديات فقط وإنما تعني كذلك إخضاع المنافسين وثنيهم عن الطموح إلى عرقلة جنوح الامبريالية الأمريكية للهيمنة في هذه المنطقة أو تلك. ولتكريس هذا التوجه العدواني الهيمني استغلت الإدارة الأمريكية أحداث 11 سبتمبر لتعلن شن "حرب لا محدودة" (أي دائمة) على "الارهاب" في كل بقعة من بقاع العالم. وهي حرب اعتبرها بعض أنصار بوش "بداية الحرب للعالمية الرابعة" (باعتبار أن "الحرب الباردة" هي الثالثة). وقد اقترن هذا الاعلان بإعلان عقيدة عسكرية جديدة تتمثل في "الحرب الوقائية" التي يمكن للولايات المتحدة أن تشن بموجبها الحرب على أي شعب أو بلد أو تنظيم يتعارض مع مصالحها، مع العلم أن هذه العقيدة العسكرية لا تستبعد استخدام الأسلحة النووية. وهكذا فإن الامبريالية الأمريكية قد أصبحت تشيع حالة من الحرب الدائمة في العالم بدعوى "محاربة الارهاب" الذي خولت لنفسها تحديد مفهومه وتحديد المتهم به.

7 – وقد حاول الفريق المسيطر على الإدارة الأمريكية إيجاد غلاف إيديولوجي لهذا التوجه الهيمني، قصد تبريره لدى الرأي العام الأمريكي. إن الايديولوجية التي تقود هذا الفريق هي خليط من المفاهيم الدينية المتطرفة والشوفينية والعنصرية. فصراع الولايات المتحدة من أجل الهيمنة على العالم والتحكم في مصادر الثروة فيه يقدم على أنه "صراع الخير ضد الشر". وبطبيعة الحال تجسد الولايات المتحدة "الخير" لأنها حسب إيديولوجيي الإدارة الأمريكية الراهنة، (المحافظين الجدد)، "أمة استثنائية"، "قيمها كونية صالحة للعالم أجمع" (المقصود بـ"القيم الكونية" القيم الرأسمالية في صيغتها النيوليبرالية الوحشية) وهو ما يحمّلها "رسالة خاصة" (هي بالنسبة إلى بوش بمثابة "الرسالة السماوية") تتمثل في "ممارسة هيمنة "خيّرة" على العالم الذي ليس أمامه أي خيار: فإما أن يقبل هذه الهيمنة وإما أن يسقط في "الفوضى". وحتى تؤدي الولايات المتحدة هذه الرسالة فهي مطالبة بأن لا تتوقف عن التسلح وبأن تسهر على أن لا يقدر إطلاقا أي بلد آخر على منافستها وبأن تكنس عن طريق القوة العسكرية "الأنظمة الشريرة" من على وجه الأرض. وبالطبع فإن "الشر" هو كل ما يعترض طريق الامبريالية الأمريكية ويعرقل نزعتها الهيمنية. وقد اعتبر مهندسو هذه السياسة العدوانية وخاصة ما تعلق منها بالمبادرة بالقضاء على الأنظمة التي لا تريدها واشنطن "ثورة استراتيجية" في السياسة الأمريكية مقارنة بـ"ثقافة التهدئة" أو "السياسة الواقعية" التي كانت مارستها إدارات أمريكية سابقة (نيكسون، كيسنجر...). وبناء على هذا المنطق العدواني فإن حكام الولايات المتحدة أصبحوا ينظرون إلى الأحداث الدولية نظرة تبسيطية تقسمها إلى أبيض وأسود ومن ثمة تقسم مواقف الدول والمجموعات من هذه الأحداث وفقا للقاعدة:" معنا أو ضدنا" أو "من ليس معنا فهو ضدنا". وليس خافيا ما في هذه الأفكار الشوفينية والعنصرية والتوسعية من خطر على الشعوب وعلى السلم العالمية وهي تذكرنا بنظريات القوى الفاشية والنازية في النصف الأول من القرن العشرين.

8 – وبناء على أحداث 11سبتمبر 2001 التي نسبت إلى "جماعات إسلامية متطرفة" حددت واشنطن موطن "الشر" الراهن في العالم الاسلامي خاصة، معتبرة الحرب معه "حربا صليبية" (العبارة لبوش وقد أطلقها بعيد أحداث 11سبتمبر) أو "حرب الحضارة الغربية المتقدمة ضد الحضارة الاسلامية المتخلفة (العبارة لرئيس حكومة إيطاليا اليميني المتطرف برليسكوني). ولا يخفي إيديولوجيو الإدارة الأمريكية نهلهم من "نظرية صدام الحضارات" العنصرية والعدوانية التي يعتبرونها "أمرا واقعيا". ومن المعلوم أن هذه "النظرية" التي وضعها "صامويل هنتنغتون" ،وهو احد خبراء الإدارة الأمريكية، تجعل من العالم الإسلامي "خطرا مباشرا" على "الحضارة الغربية المسيحية" وتدعو الدول الغربية بقيادة الولايات المتحدة إلى التكتل في وجهه.

وليس من باب الصدفة أن يحدد العالم الإسلامي "عدوا مباشرا" للامبريالية الأمريكية فهو يأوي ثروات نفطية هائلة، من الشرق الأوسط إلى منطقة آسيا الوسطى، الأمر الذي يجعل من الهيمنة عليه والتحكم في ثرواته، الشغل الشاغل لواضعي السياسات الاستراتيجية الأمريكية وبعبارة أخرى، ما كان العالم الإسلامي ليكون موضعا للاهتمام بهذا القدر لولا ثرواته وخاصة النفط.

9 – ومن الجدير بالملاحظة المكانة التي أصبح يحتلها الكيان الصهيوني، والحركة الصهيونية عامة في المخططات الهيمنية للولايات المتحدة. إن الروابط بين الطرفين اشتدت على كافة المستويات. فمعظم عناصر التيار "المحافظ" الذي يوجه السياسة الخارجية لواشنطن هم من اليهود الصهاينة أو من الفرق المسيحية المتصهينة.

ويعتبر هؤلاء جميعا بإيديولوجيتهم العدوانية العنصرية من أنصار حزب الليكود اليميني المتطرف الذي يرأسه المجرم أرييل شارون. لذلك فهم يعالجون قضايا الشرق الأوسط وخاصة القضية الفلسطينية من زاوية مصالح "إسرائيل" كما يراها شـــارون وعصابته. وقد كانت حماية هذا الكيان حاضرة في أذهان مخططي العدوان على العراق. كما أنهم يرون في الكيان الصهيوني والحركة الصهيونية عامة شريكا استراتيجيا للولايات المتحدة في حربها على "الارهاب" وبالتالي في مواجهة "العالم الإسلامي" وعلى هذا الأساس فإن العلاقة بين الطرفين تدعمت على المستوى العقائدي وعلى المستوى السياسي والعسكري على حد السواء.

10 – لقد كانت أفغانستان الضحية الأولى للعدوانية الأمريكية فيما بعد أحداث 11 سبتمبر 2001. وقد غلفت واشنطن حربها على أفغانستان بـ"مقاومة الارهاب". ولكنه لم يخف على أحد أن البترول شكّل الخلفية الحقيقية لهذه الحرب التي استغلتها الامبريالية الأمريكية لاحتلال أفغانستان وتنصيب حكومة عميلة على رأسه. كما استغلته لإقامة قواعد عسكرية في بلدان آسيا الوسطى الغنية بالنفط (نفط بحر قزوين) وفسح المجال لشركاتها البترولية للانتصاب فيها على أن تشكل أفغانستان ممرا لتصدير ذلك النفط. (توجد أهم القواعد العسكرية في أفغانستان وجورجيا وأوزباكستان وكرغيزستان وكازاخستان إلخ...).

وقد حظيت حرب الولايات المتحدة على أفغانستان بدعم حلفائها ودعم روسيا و"تفهم" الصين وتزكية مجلس الأمن والأمم المتحدة ومساندة معظم دول العالم بما فيها الدول العربية والإسلامية بدعوى أن تلك الحرب تندرج في إطار "الدفاع عن النفس" ورد فعل على العمليات الانتحارية التي استهدفت مدينتي نيورك وواشنطن والتي اتهم فيها تنظيم "القاعدة" بزعامة أسامة بن لادن المقيم عند "طالبان" بأفغانستان. وقد تظاهرت كبريات الدول بعدم فهم نوايا واشنطن والتوهم أنها ستقصر تدخلها على هذا البلد الذي شاركت في الحرب عليه.

11 – إن الحرب على العراق تندرج في نفس السياق الذي جاءت فيه الحرب على أفغانستان. والهدف هو الاستيلاء على ثروات العراق النفطية وتحقيق السيطرة التامة على منطقة الشرق الأوسط الاستراتيجية. ولكن الحرب على العراق، خلافا للحرب الأولى، أثارت تناقضات في صفوف القوى الامبريالية الأساسية وتحديدا بين الولايات المتحدة وبريطانيا من جهة وفرنسا وألمانيا وروسيا التي عارضت الحرب من جهة ثانية. وليس من سبب لهذه التناقضات سوى تضارب المصالح، فالامبريالية الأمريكية تسعى بالسيطرة على النفط في الشرق الأوسط وفي آسيا الوسطى إلى التحكم في الصناعة العالمية التي ستتضاعف احتياجاتها إلى "الذهب الأسود" خلال العقدين المقبلين. وهي بذلك تريد عرقلة مسيرة منافسيها الرئيسيين على الصعيد الاقتصادي وهم الاتحاد الأوروبي والصين واليابان، وتحجيم روسيا الضعيفة اقتصاديا والمالكة لترسانة عسكرية قوية. وقد كاد الاتحاد الأوروبي ينقسم نتيجة هذه التناقضات. ولأول مرة دب الخلاف في الحلف الأطلسي وعجز عن اتخاذ موقف مشترك حول دعم تركيا في حال تعرضها "لهجوم عراقي". وتشعر روسيا من ناحيتها أن الولايات المتحدة تطوقها من كل جانب وخاصة من جهة أوروبا الشرقية وآسيا الوسطى. وتسعى الولايات المتحدة من خلال التحرش بكوريا الشمالية ودعم تايوان إلى مضايقة الصين وزعزعتها باستمرار. ولأول مرة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية يهمش مجلس الأمن والأمم المتحدة تهميشا واضحا. لقد أصبحت الإدارة الأمريكية تتعامل معهما كجزء من نظام دولي انتهى وقته. وهي بصدد وضع تصورات جديدة "لتنظيم" العلاقات الدولية تنظيما يلائم مصالحها ويعكس التوازنات الدولية الجديدة القائمة على الهيمنية الأمريكية. إن واضعي استراتيجيات البيت الأبيض من أجل "قرن 21 أمريكي" لا يخفون اشمئزازهم من الأمم المتحدة التي يعتبرونها "كارثة" و "مؤسسة فاشلة" و"إذا كان لها من دور في المستقبل فلن يتجاوز المسائل الانسانية" أي القيام بدور "صليب أحمر كبير". كما أنهم يعتبرون فكرة "العالم المتعدد الأقطاب" (أي الأقطاب الامبريالية) الذي تدعو إليه فرنسا والصين وروسيا من باب "الوهم". فالرهان عندهم لا يقابل بين الهيمنة الأمريكية من جهة و"عالم عجيب" متعدد الأقطاب، تحكمه معايير وقوانين ومفاوضات دولية من جهة أخرى وإنما بين إقرار الهيمنة الأمريكية أو مواجهة "عالم خطير مرعب".

12– وخلاصة القول إن الامبريالية الأمريكية تغذي (في سعيها المحموم إلى الانفراد بالهيمنة على العالم إعادة صياغته وفقا لمصالحها الاقتصادية والسياسية والعسكرية والثقافية) التناقضات في صفوف العالم الامبريالي... وهي تزرع بذلك بذور حرب عالمية جديدة، خصوصا أنها لا تنوي التوقف عند العراق. فـ"حربها اللامحدودة" و"ضرباتها الوقائية" مرشحة للاستمرار. فأعضاء إدارة بوش ما انفكوا يصرحون أن "الحرب على الارهاب" لم تنته بإسقاط النظام العراقي واحتلال العراق. وهم يطلقون اليوم تهديداتهم تجاه إيران، البلد الإسلامي الآخر الغني بالنفط الذي تريد الامبريالية الأمريكية السيطرة عليه لاستكمال سيطرتها على كافة منطقة الشرق الأوسط. وهم لا يخفون نواياهم في تغيير نظام الملالي وإحلال نظام موال لهم محله، ويستعملون لتبرير أي هجوم محتمل على إيران نفس الذرائع التي استعملت لشن الحرب على العراق وهي "امتلاك أسلحة الدمار الشامل" و"السعي إلى انتاج السلاح النووي". وتتوعد الإدارة الأمريكية سوريا أيضا إن لم ترضخ لشروطها. كما تتوعد كوريا الشمالية وغيرها من البلدان سواء بدعوى التسلح أو بدعوى "رعاية الارهاب". ولا تتردد الولايات المتحدة في حشر أنفها في مختلف بقاع العالم بما في ذلك أوروبا ذاتها لإثارة الشقاق بين أعضاء اتحادها وتعزيز مواقعها فيها. ومن الملاحظ أن الإدارة الأمريكية قد وجدت سندا في حربها على العراق في البلدان الغربية الأوروبية التي ترأسها حكومات يمينية متطرفة، على غرار حكومات إسبانيا وإيطاليا والبرتغال وغيرها. كما وجدت سندا في حكومات عدد من بلدان أوروبا الشرقية التي كانت خاضعة في السابق للاتحاد السوفياتي، ودخلت فيما بعد زريبة الامبريالية الأمريكية. وهذه البلدان تمثل في نظر بوش وبطانته "أوروبا الجديدة" مقابل أوروبا القديمة التي تمثلها فرنسا وألمانيا. وتهتم الولايات المتحدة ببلدان إفريقيا حيث يوجد البترول خاصة (أنغولا، الجزائر، ليبيا، نيجيريا...) وتمارس ضغوطا مختلفة على دولها وهو ما يربك القوى الامبريالية الأخرى، الأوروبية خاصة التي لها مصالح في تلك البلدان.

13 – وعلى صعيد آخر لم تتراجع المصاريف العسكرية إثر انهيار الاتحاد السوفياتي ونهاية "الحرب الباردة" . فقد بلغت الميزانية الحربية للولايات المتحدة الأمريكية في هذا العام (2003) 378 مليار دولار أي بزيادة قدرها 14% مقارنة بالعام 2002 وهي زيادة قلما عرفتها هذه الميزانية. ومع انطلاق الحرب على العراق حصل بوش من الكنغرس على مبلغ إضافي بـ75 مليار دولار. ومن المنتظر أن تبلغ الميزانية العسكرية للولايات المتحدة عام 2007 ما قيمته 450 مليار دولار وهو مبلغ سيفوق ما تصرفه جميع دول العالم مجتمعة في المجال العسكري. وتقيم هذه الأخيرة قواعد عسكرية في 132 دولة في العالم. ولم تتردد إدارة بوش في إلغاء اتفاقياتها مع روسيا الخاصة بالأسلحة الباليستية المعقودة مع الاتحاد السوفياتي منذ عام 1972 وهي تمضي قدما في إنجاز مشروع "الدرع الصاروخي". ولم تتورع في حروبها التي خاضتها ضد العراق (1991) ويوغسلافيا (1999) وأفغانستان (2001) والعراق (2003) عن استعمال أشنع الأسلحة الفتاكة. فهذه البلدان مثلت مخابر لأسلحتها الجديدة. ومن البديهي أن ينجر عن ذلك تسابق نحو التسلح. فالاتحاد الأوروبي يتجه نحو خلق "دفاع مستقل" لتعزيز مكانته في الساحة الدولية. ولم توقف روسيا رغم مشاكلها الاقتصادية برامج تسلحها، فقد أعلن بوتين أخيرا تجربة بلاده لأسلحة جديدة. وتعمل الصين من جهتها على تطوير أسلحتها بكل الوسائل. وبطبيعة الحال فإن هذه القوى لا تجمع السلاح لتتفرج عليه وإنما لإثارة الحروب التي لا يمكن لها أن تستغني عنها كوسيلة لإعادة اقتسام مناطق النفوذ.

14 – ولكن الحرب الأخيرة على العراق لم تغذ التناقضات في صفوف الامبريالية فحسب، بل إنها أثارت، وهذا هو الأهم، نهضة شغيلة العالم وشعوبه من جديد في وجه البربرية الامبريالية، الأمريكية على وجه الخصوص. ففي خلال الحرب الأولى على العراق (1991) ثم على يوغسلافيا (1999) وحتى على أفغانستان (2001) لم يشهد العالم تحركات شعبية هامة. أما هذه المرة فإن الحركة المناهضة للحرب وللهيمنية الأمريكية خاصة اتخذت أبعادا هامة، ناهيك أن المظاهرات والمسيرات في بعض البلدان (أنجلترا مثلا) تجاوزت في حجمها حتى تلك التي حصلت أيام العدوان الأمريكي على فيتنام.

لقد كانت العشر سنوات الماضية التي تلت انهيار الاتحاد السوفياتي كفيلة بتوضيح حقيقة النظام العالمي الجديد الذي وعدت به الولايات المتحدة الأمريكية. لقد تبين للعمال والشعوب في كافة أنحاء العالم وحتى في البلدان الرأسمالية الكبرى (مجموعة الثمانية) أن النيوليبرالية المعولمة لا تعني شيئا غير اشتداد قبضة الشركات الاحتكارية الكبرى المتعددة الجنسيات والطغم المالية ومن ثمة حفنة من الدول الرأسمالية وبعض المؤسسات الدولية الخاضعة لها (صندوق النقد الدولي، البنك العالمي، المنظمة العالمية للتجارة...) على مصائر العالم وما تولد عن ذلك من تعميق للاستغلال والاضطهاد وتكثيفهما ومن ضرب للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية ومن مزيد تفقير البلدان التابعة ونهبها وإخضاعها ومن إثارة للحروب والنزاعات العرقية والطائفية والعنصرية ومن تطور لقوى اليمين المتطرف وعودة إلى الحروب الاستعمارية على الشاكلة التقليدية وتدمير للثقافات المحلية وللطبيعة والمحيط وتهديد مصير الأجيال القادمة من الإنسانية.

15 – لقد كان من نتائج النيوليبرالية التي سعت تدريجيا منذ مطلع الثمانينات، بدءا بالولايات المتحدة وبريطانيا. أن تعمقت الهوة على الصعيد الدولي بين قطبي الثروة والفقر. إن الـ20% من الناس الأكثر غنى في العالم استأثروا عام 1998 بـ86% من الناتج العالمي الخام بينما لم يتجاوزنصيب20%الأكثرفقراالـ1% من ذلك. وفي نفس السياق انتقل الفارق في المداخيل على المستوى العالمي من 30 إلى 1 سنة 1960 إلى 60 إلى 1 عام 1990 ثم إلى 74 إلى 1 سنة 1997. وأصبح دخل الـ225 من أصحاب الثروات الكبرى في العالم وهم من الشركات المتعددة الجنسيات أو بالأحرىالشركات الاحتكارية العالمية والطغم المالية يعادل سنويا دخل 47% من أكثر سكان العالم فقرا أي دخل 2,5 مليار نسمة، بل إن دخل بعض الأثرياء يفوق أحيانا دخل بعض الدول. ومن الملاحظ أن 54% من سكان العالم أي 2,7 مليار نسمة يعيشون بأقل من دولارين في اليوم الواحد بينما يعيش 1,3 مليار نسمة أي 22% من سكان العالم بدولار واحد وهو الحد الأدنى المطلق للفقر. ولا يمكن أن تكتمل الصورة إلا إذا أشرنا إلى أن المجموعة البشرية تنتج سنويا 110% من الحاجات السنوية لسكان المعمورة أي ما يكفي وزيادة لسد حاجات الانسانية جمعاء. وهو ما يعني أن الفقر والجوع في العالم ليس سببهما نقص الانتاج ولكن سيطرة حفنة من الأثرياء على ثمرة مجهودات المليارات من البشر لأن هذه الحفنة تتحكم في وسائل الانتاج الرئيسية.

16 – وقد زاد اشتداد قبضة الشركات الاحتكارية المتعددة الجنسيات والطغم المالية في تعميق الطابع الرجعي للامبريالية في المجال السياسي وهو ما انعكس في تفاقم النزعة العسكرية وفي تواتر الحروب العدوانية ناهيك أن الامبريالية الأمريكية خاضت خلال العشر سنوات الأخيرة منفردة أو بمعية حليفاتها أكثر من 10 حروب في أكثر من منطقة من العالم. كما انعكس في خضوع العلاقات الدولية أكثر فأكثر لمنطق العنف وإرهاب الدولة وعدم الالتزام بأبسط القوانين والمبادئ الأخلاقية الدولية. وقد كانت الحرب على العراق شاهدا على الانتهاك الفج لهذه القوانين والمبادئ. وليست مظاهر الغطرسة هذه مقتصرة على المستوى الدولي، وإنما هي تكرس داخل البلدان الامبريالية ذاتها من خلال الهجوم المستمر على الحقوق السياسية للكادحين. لقد استغلت الإدارة الأمريكية أحداث 11 سبتمبر لإصدار واتخاذ سلسلة من الاجراءات والقوانين التي تسمح للحكومة بالحد من حرية التنقل وبالتنصت على الاتصالات الهاتفية والالكترونية وانتهاك الحياة الخاصة ومراقبة أنشطة الجمعيات وخاصة الدينية منها وتشديد القبضة على وسائل الإعلام (جرائد، أفلام...) والسماح للوكيل العام بإيقاف واعتقال الأجانب لمجرد الشبهة وانتهاك سرية العلاقة بين المحامي وحريفه. وتمثل أوضاع معتقلي حرب أفغانستان في معتقل "غوانتنامو" شهادة فظيعة على ما وصلت إليه حالة الحريات وحقوق الإنسان في الولايات المتحدة. ولا بد من ملاحظة أن إجراءات مماثلة لتلك التي اتخذت في الولايات المتحدة أقرت في معظم البلدان الامبريالية، حيث أصبح الفارق بين الحكومات اليمينية والاشتراكية الديمقراطية وبين حكومات اليمين المتطرف يتقلص باستمرار.

17 - على هذا الأساس أخذت حركة الشغيلة وكل الفئات المتضررة من الاقصاء والتهميش والقهر وحركة الشعوب والأمم المضطهدة في النهوض بعد أن مرت بفترة تراجع خلال مطلع التسعينات الذي اشتدت فيه الحملة الايديولوجية على الاشتراكية والشيوعية وعلى قيم النضال والتقدم عامة بل أعلنت فيه الرأسمالية في صيغتها النيوليبرالية "نظاما أزليا"، أي "آخر نظام اقتصادي واجتماعي وسياسي تعرفه البشرية في تاريخها". وقد تجسد هذا النهوض في الحركة المناهضة للعولمة الامبريالية التي ما انفكت تعبئ من سنة إلى أخرى أعدادا غفيرة من العمال والشبان والمثقفين من مختلف أنحاء العالم وهي تؤكد أن عالما آخر غير عالم الشركات الاحتكارية المتعددة الجنسيات والطغم المالية ممكن وضروري. كما تتجسد في الانتفاضات الشعبية التي شهدتها عدة بلدان في أمريكا اللاتينية وآسيا وفي فلسطين، وفي الحركات الاجتماعية الكبيرة التي شهدتها وتشهدها البلدان الراسمالية "المتقدمة". وما من شك في أن الحركة المناهضة للحرب التي شهدها العالم أخيرا تمثل لحظة هامة في تطور وعي الشغالين والشعوب. فالذين نهضوا ضد الحرب إنما فعلوا ذلك من موقع معارض للامبريالية عامة وللامبريالية الأمريكية خاصة. وبعبارة أخرى فإن العالم اليوم مقبل على مرحلة جديدة من نضال الشغالين والشعوب بعد أن شهد هذا النضال تراجعا واضحا خلال النصف الأول من التسعينات. لذلك لا ينبغي النظر بأي صورة من الصور إلى الغطرسة الامبريالية وبالخصوص غطرسة القوة العظمى الأمريكية (بعد انتكاسة التجارب الاشتراكية والديمقراطية الشعبية الأولى وتحولها إلى أنظمة بيروقراطية استبدادية قبل أن تتفسخ نهائيا وتسقط في زريبة الرأسمالية النيوبرالية) نظرة أحادية، مطلقة، كأنها قدر محتوم لا يمكن التصدي له.

إن الامبريالية محكومة بتناقضاتها التي تعبر عنها أزماتها الاقتصادية الهيكلية والدورية التي تغذي الصراع الطبقي بين الشغيلة وكافة الفئات الجديدة المهمشة والمسحوقة من جهة والبرجوازية الاحتكارية من جهة ثانية. كما أنها محكومة بتناقضها مع الشعوب والأمم التي تنهبها وتضطهدها وتحكم عليها بالتبعية وتسد أمامها آفاق التطور والتقدم وتدمر هويتها وثقافتها. وهي محكومة أخيرا بالتناقضات في صفوفها. إن هذه التناقضات الأساسية الثلاثة هي التي تضعف البورجوازية الامبريالية وتوابعها وتغذي نضال ضحاياها ضدها.

18 - إن القوى الثورية العالمية مدعوة اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى القيام بدور طلائعي وفعال في بلدانها وعلى صعيد أممي. وهذا الدور فكري وعملي في الآن ذاته. لقد بين سير الأحداث في السنوات الأخيرة صحة مقولات ماركس الأساسية حول تطور الرأسمالية كما بين صحة مقولات لينين الأساسية حول الامبريالية. إن كل الذين روجوا لتقادم هذه المقولات وعدم صلاحيتها بان خورهم. فالرأسمالية والامبريالية أكدت مرة أخرى عجزها عن تحقيق ما تطمح إليه الانسانية من تقدم اجتماعي وسياسي وثقافي ومن سلم دائمة بين مختلف الشعوب، بل أكدت أنها تسير بالبشرية نحو كارثة محققة. وهو ما يجعل الحاجة إلى نظام اجتماعي جديد أي إلى النظام الاشتراكي لحسم تناقضات النظام الرأسمالي مسألة ملحة.

ومن واجب القوى الثورية أن تدرك هذا وأن تدافع بقوة واقتدار عن الماركسية اللينينية وأن تجعلها تستوعب كافة الظواهر الجديدة، حتى تكون قادرة على الاقناع والتأثير. كما أن واجبها أن تبلور الاستراتيجيات والتكتيكات الملائمة لتطوير الحركات الثورية في بلدانها وعلى صعيد أممي. ومن المهم أن تولي أهمية للحركات النضالية التي ما انفكت تتطور بصورة عفوية على غرار "الحركة المناهضة للعولمة" حتى تسلحها بالوعي الضروري الذي يحولها إلى قوة ضاربة ضد الرأسمالية والامبريالية. وفي هذا الإطار فإن العمل من أجل إقامة جبهة عالمية مناهضة للامبريالية ولرأس حربتها الهيمنية الأمريكية أمر على غاية من الأهمية اليوم، ومن المؤكد أنه عمل سيلقىالصدى والتجاوب عند شغيلة العالم وشعوبها التي يهمها موضوعيا أن تكثيف جهودها من أجل خلاصها النهائي.

19 – إن حزبنا وهو يقوم بواجباته في تونس من أجل تطوير عوامل التغيير الاجتماعي والسياسي، مدعو إلى دعم علاقاته بالأحزاب والمنظمات الماركسية اللينينية وكافة القوى الثورية والتقدمية في العالم لتنسيق النضال ضد الامبريالية والرجعية والصهيونية العالمية وتبادل التجارب والخبرات ومطالب بالسعي إلى حضور المنتديات الاجتماعية الإقليمية والعالمية للاطلاع عليها والنقاش مع مكوناتها. إن الامبريالية وعلى رأسها الامبريالية الأمريكية وهي تعولم العالم على صورتها إنما تجذر الطابع الأممي لنضال الشغيلة والشعوب والأمم المضطهدة وتؤكد أنه لا مناص منه. فعلى حزبنا أن يطور الروح الأممية لدى الشغيلة والشعب التونسيين ويعمل على تجاوز التخلف الذي يعانيان منه في هذا المجال. إن تحرر الشعب التونسي من نير الدكتاتورية النوفمبرية مثله مثل تحرر بقية الشعوب العريبة من الامبريالية والرجعية والصهيونية، يندرج في سياق نضال عالمي يتأثر به ويؤثرفيه، ولا يمكن بالتالي التغاضي عنه، بل لا بد من استثماره كعامل إيجابي مساعد للنهوض بأوضاعنا.

جويلية 2003


الصفحة الأساسية | خريطة الموقع | البريد الالكتروني