الصفحة الأساسية > كتب ومنشورات > في اللائكية > الماركسية وعلاقة الدين بالدولة: الدولة اللائكية (مقتطفات من الماركسية (...)
في اللائكية
الماركسية وعلاقة الدين بالدولة: الدولة اللائكية (مقتطفات من الماركسية والدين)
ردّ على محمد حرمل*

احتلت مسألة علاقة الدين بالدولة مكانة هامة في الجدال الذي قام بين الحزب الشيوعي التونسي وبعض الإسلاميين على صفحات الجرائد، وهذا أمر طبيعي بالنظر إلى طبيعة هذه المسألة الحساسة. وكعادته سعى هذا الحزب إلى إيجاد صيغة وفاق بين الماركسية والدين، وعبّر رشيد مشارك أحسن تعبير عن هذا الموقف في مقاله الذي أشرنا إليه في بداية هذا النص إذ قال:

"ولا نخفي أن لنا كماركسيين مع الاتجاهات الإسلامية خلافات في الرؤية الفلسفية وفي تقييم المكاسب العقلانية، غير أننا لا نطرح شعار لائكية الدولة مثلما طرح في أوروبا حيث الحركة العمالية التي رفعت هذا الشعار لم تكن وحدها لمقاومة طاغوت الكنيسة وهيمنتها على مصائر العباد. الأمر بالنسبة لنا نحن الشيوعيين التونسيين مخالف لذلك تماما. إننا نرتئي إلى أن تكون الدولة في خدمة مصالح الجماهير الشعبية وضمن هذه المصالح الاعتناء بشؤون الدين في كل ما يتطلبه ذلك من توفير المعرفة الإسلامية في المدارس وفي أجهزة الإعلام التي تملكها والسهر على بناء المساجد وتوفير الجو الملائم لكي يتمكن المواطنون من أداء واجباتهم الدينية. ولكن ما نرفضه هو أن تتسلط أي جهة دينية على أجهزة الدولة وتستمد منها نفوذا يخول لها تصنيف المواطنين إلى مسلمين وخارجين عن الإسلام".

هذا هو موقف الحزب الشيوعي التونسي من علاقة الدين بالدولة، وعلاقة الدين بالمدرسة، فهو في حقيقة الأمر مع دولة ومدرسة لهما صبغة دينية إلى حد ما وضد التطرف الديني فقط. لقد اعتنت الماركسية بموضوع علاقة الدين بالدولة والدين بالمدرسة، ووقفت بصورة جلية لا لبس فيها إلى جانب لائكية الدولة، التي تعني فصل الدين عن الدولة وفصل المدرسة عن الدين، ما معنى هذا؟ يعني أن تحجم الدولة عن التدخل في قضية الدين بصورة مباشرة أو غير مباشرة، كأن تكون جمعيات دينية أو تموّلها، وأن تحجم عن إقامة فوارق بين المواطنين على أساس ديانتهم أو تحدّ من حريتهم على نفس الأساس وأن تضمن حقهم في الاعتقاد في أيّ دين مثلما تضمن حقهم في الإلحاد أيضا.

أما فصل المدرسة عن الدين، فهو يعني، جعل المدرسة مكانا تؤمّه الناشئة لتلقي المعارف العلمية والفنية والثقافية لا غير، دون أن يفرض على وعيها هذا المعتقد الديني أو ذاك، ودون أن يؤخذ بعين الاعتبار في تدريس العلوم موقف الأديان من هذا الاكتشاف أو ذاك. ولكن هل يعني هذا في نظر الماركسية منع وجود المعتقدات الدينية والمجموعات الدينية وممارسة الشعائر الدينية والاحتفال بالمواسم الدينية؟ أبدا. يبقى كل ذلك. لكن دون أن تتدخل الدولة وتفرض بشكل من الأشكال نمطا معينا من المعتقد. ينبغي أن يتحوّل الدين إلى قضية خاصة بالنسبة لها.

لائكية الدولة رفض للقهر والاضطهاد

لقد انطلقت الشيوعية في تبني شعار لائكية الدولة وهو في أساسه شعار "بورجوازي" رفعته بورجوازية القرن الثامن عشر الثورية، من حقيقة تاريخية ونظرية جلية، وهي أن ربط الدين بالدولة يؤدي حتما إلى حصول أبشع مظاهر القهر والاضطهاد. كيف؟

أولا: إن ربط الدين بالدولة يقف حاجزا أمام النهضة العلمية، لأن كل اكتشاف يتناقض مع ما جاء في الأديان - وكم هي الأديان متناقضة مع الاكتشافات العلمية - إلا واعتبر زندقة وكفرا وهرطقة وكان مصير صاحبه القهر. والجميع يعلم ماذا كان مصير "غاليلي" نتيجة لاكتشافه أن الأرض تدور، في حين أن الكنيسة المسيحية تعتبرها، مركز الكون وتقرّ بأن الكواكب الأخرى هي التي تدور حولها كما أن الجميع يعلم موقف مختلف المؤسسات الدينية مسيحية أو إسلامية من نظرية التطور الداروينية التي بيّنت بالحجة أن الإنسان، وليد تطور كائن حي شبيه بالقرد، حتى أنه يمنع في أمريكا إلى اليوم تدريس داروين ونظريته العلمية في المدارس والمعاهد التي تخضع للمؤسسة الدينية! وما هذه إلا أمثلة قليلة على مناهضة الأديان للمعارف العلمية.

ثانيا: إن ربط الدين بالدولة يؤدّي أيضا إلى قمع حرية الفكر، لأن كل تفكير يتنافى مع الدين كليا أو جزئيا يعتبر مروقا يُخََصّ صاحبه بالتنكيل، فالتفكير والمعرفة لا يخرجان في العرف الديني عن تكرار وتأكيد ما جاء في "الكتاب المقدس" الذي يتحوّل إلى المصدر الوحيد للمعارف البشرية. وفي هذا نفي لتطور الفكر البشري، وحكم عليه بالجمود والتقهقر. ولنا في تاريخ مختلف الأديان أناس عديدون ذهبوا ضحية جرأتهم في التعبير عن أفكار عقلانية مخالفة "للمعارف" الدينية. (مثال ابن رشد العربي الذي أحرقت كتبه ونفي نتيجة لاتهامه بالزندقة لأنه أدخل أفكارا مادية في الفكر العربي).

ثالثا: إن ربط الدين بالدولة يؤدي كذلك وبصورة حتمية إلى قمع الحريات السياسية. لماذا؟ لأن الدين يعتبر الله مصدر التشريع، كما يعتبر أن هذا التشريع تم وانتهى وحدّد للناس مبادئ لسلوكهم الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والأخلاقي وما عليهم إلا أن يتبعوا تلك المبادئ من خلال اتباع خليفة الله على الأرض، الملك أو الخليفة أو الإمام، فالحكم هو حكم الله. وهكذا يسلب من الشعب حقه في ممارسة التشريع في كل ما يخص شؤون حياته، لأن صفة المشرّع لا تنطبق إلا على الله. يقول أبو الأعلى المودودي، وهو أحد كبار رواد الفكر الإخواني بعد سيد قطب في شأن نظرية الإسلام السياسية إن محورها يتمثل في: "نزع جميع سلطات الأمر والتشريع من أيدي البشر... لأن ذلك أمر مختص به الله وحده... وبما أن الديمقراطية تكون فيها السلطة للشعب... جميعا... فلا يصح إطلاق كلمة الديمقراطية على نظام الدولة الإسلامية بل أصدق منها تعبيرا كلمة الحكومة الإلهية أو التيوقراطية" [1].

لذلك لا غرابة في أن نرى تاريخيا أن كل الأنظمة القائمة عل الدين مسيحية كانت أو إسلامية، تشترك في كونها فردية مطلقة. إن كل تناقض مع الملك أو الخليفة يتحوّل إلى تناقض مع الله، ومن يناقض الله مآله العذاب الأليم...

أمّا إذا تعلق الأمر ببلد ذي ديانات متعددة، فإن إقامة الدولة على أساس ديني يلحق ضررا بأصحاب الدين الأقلي إذ أن الحقوق السياسية يتم توزيعها على أساس طائفي. ويتحول الاختلاف في الدين، كالاختلاف في العرق والجنس أو الطبقة إلى قاعدة للاضطهاد السياسي.

لذلك فإن رفع البشرية لشعار الدولة العلمانية (وقد تم ذلك في البداية في أوروبا) كان نتاجا لنضال طويل وشاق بين الحرية والاستبداد، وهو نضال دفعت البشرية ثمنه غاليا. وإذا لم يطرح هذا الشعار في ربوع البلاد العربية فليس لأن المؤسسة الإسلامية ديمقراطية ولا حاجة للعرب بفصل الدين عن الدولة، بل لتخلف بلدانهم وعدم قيام ثورات ديمقراطية بورجوازية فيها في القرن الثامن والتاسع عشر، حتى جاء الاستعمار فسعى إلى المحافظة على الأوضاع واستغلها لفائدته.

اللائكية محك للقوى السياسية

إن الموقف من علاقة الدين بالدولة هو محكّ لديمقراطية أيّة قوة سياسية، والديمقراطي الحقيقي هو الذي يدافع عن الدولة العلمانية، والشيوعية، إذا تمسكت بهذا الشعار الذي تراجعت عنه البورجوازية في أكثر من مكان فلأنها مبنيّة على احترام إرادة الجماهير، على الديمقراطية، لأن في بناء الدولة على أساس علماني إطلاقا للحريات السياسية ولطاقات الشعب الذي يتحوّل إلى سيّد مصيره. والغريب في الأمر أن الحزب الشيوعي التونسي الذي يدّعي أنه حامل لواء الماركسية في تونس، لم يرتق حتى إلى مستوى بورجوازية القرن الثامن عشر الثائرة في دفاعها عن ضرورة الفصل بين المؤسسة الدينية والدولة. فأنّى له أن يدّعي الشيوعية وهي حازمة صارمة في هذا الموقف. ولكن هل تتوقف الماركسية في حدود رفع شعار علمانية الدولة، وكفى. كلا إن الشيوعية تعتبر فصل الدين عن الدولة شرطا ضروريا لتمكين الكادحين من تجاوز الأوهام الدينية، لأن ذلك الفصل وما سينجرّ عنه من إطلاق لحرية الفكر، من شأنه أن يتيح إمكانية النقاش، إمكانية تناول قضية الدين والإلحاد بأسلحة فكرية محضة حسب عبارة لينين بعد أن كان الخوض فيها ممنوعا، يعرّض صاحبه إلى أشد أشكال التنكيل على يد المؤسسة الدينية المسيطرة على الدولة.

هكذا إذن فإن اعتبار الماركسية الدين مسألة خاصة بالنسبة للدولة، لا يعني أن من واجب الشيوعيين أن يحجموا عن كفاحهم النظري ضد الفكر الديني الغيبي بل لابدّ من مواصلته. وإذا كانت الماركسية ترفع فصل الدين عن الدولة شعارا سياسيا فمن اليسير أن نفهم أن الدولة الاشتراكية لا يمكن أن تكون إلا دولة غير دينية، علمانية.

على هذا الأساس يمكن القول أن الماركسية إذا كانت تقف ضد المواقف اليسارية والفوضوية التي تريد حسم المسألة الدينية بالطرق القسريّة وتعتبر - أي الماركسية - ذلك اعتداء على حرية الكادحين وعلى مشاعرهم وترهن المسألة بحرية النقاش والتثقيف، فإنها تقف أيضا ضد الطرح اليميني الانتهازي الذي يدعو إلى مهادنة الدين بدعوى أنه قضية خاصة، والإحجام عن نشر الفكر المادي، يقول لينين بهذا الصدد:

"الدين بالنسبة لحزب البروليتاريا الاشتراكية ليس قضية خاصة. إن حزبنا هو جمعية مناضلين واعين وطليعيين يقاتلون في سبيل تحرّر الطبقة العاملة. إن هذه الجمعية (الحزب) لا تستطيع ولا ينبغي لها أن تظل غير مهتمة بغياب الوعي، بالجهل، والتجهيل المصطبغة بصبغة اعتقادية دينية. إننا نطالب بالفصل الكامل بين الكنيسة والدولة لكي نحارب الضباب الديني بأسلحة فكرية محضة وبأسلحة فكرية فقط..." [2].

ملاحظة

* "المغرب العربي" (Le Maghreb)، العدد 69.

هوامش

[1أطروحات – نظرية السلطة الدينية في الخطاب السلفي الإسلامي، العدد 2 ص 34-36.

[2لينين. نصوص حول الموقف من الدين.


الصفحة الأساسية | خريطة الموقع | البريد الالكتروني