الصفحة الأساسية > صوت الشعب > العــدد 256
جوان: شهر المنع والقمع
تموز (يوليو) 2007

خلال شهر جوان الحالي حدثت وقائع عدة يجمع بينها خيط واحد: غطرسة نظام بن علي واشتداد قبضته الأمنية على المجتمع وعلى الشعب التونسي.

في مطلع الشهر وتحديدا يوم 2 جوان حاصرت تشكيلات عدة من البوليس والحرس مداخل المدن الكبرى وخاصة تونس لمنع المناضلات والمناضلين من التوجه إلى مدينة قعفور لإحياء اليوم الوطني للتعذيب الموافق للذكرى العشرين لاغتيال شهيد الحريـة، نبيل بركاتي. وكالعادة استفز البوليس وسبّ وشتم واعتدى. وبعد أيام من ذلك حاصر البوليس السياسي مقر المجلس الوطني للحريات بالعاصمة ومنع المحتجين، من ممثلي الجمعيات ومنظمات المجتمع المدني، على غلق مقر المجلس من الوصول إليه. وفي يوم 10 جوان حوصرت مدينة القيروان وخاصة مقر "الاتحاد الجهوي للشغل" بأعداد غفيرة من أعوان البوليس والحرس لمنع إقامة تظاهرة تضامنية مع الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان في الذكرى الثلاثين لتأسيسها وقد منع البوليس يومها عددا من المناضلين بمن فيهم رئيس فرع الرابطة بالجهة حتى من مغادرة منزله. وفي يوم 14 جوان هاجم البوليس بالقصرين المعلمين الذين كانوا متجهين من دار الاتحاد الجهوي إلى مقر الإدارة الجهوية للتعليم للاعتصام أمامها، واعتدى بالعنف الشديد على المحتجين الذين أصيب البعض منهم إصابات بليغة. وفي يوم 15 جوان منع البوليس السياسي ندوة حول حرية العقيدة كان من المقرر القيام بها بمقر التكتل الديمقراطي بالعاصمة. وفي يوم 16 جوان حاول البوليس السياسي منع عقد اجتماع للمنتدى الاجتماعـي التونسي ومنع بعض النقابيين حتى من قضاء ليلتهم بنزل أميلكار. وفي يوم 20 جوان اعتدى البوليس على أعضاء "اتحاد المعطلين عن العمل" من أصحاب الشهائد العليا وأوقف البعض منهم بسبب احتجاجهم على ظروفهم المزرية. وفي يوم 26 جوان منعت السلطات جمعية النساء الديمقراطيات بعد رفع الحظر عن أموالها، من عقد ندوة بطبرقة لشبيبتها النسائية.

هذه بعض الوقائع التي تمت خلال شهر جوان الذي مثـّل بـ"امتياز" شهر المنع والقمع منذ بداية السنة الحالية وهو ما يكشف مرة أخرى الطبيعة القمعية والفاشستية لنظام بن علي. فهذا الأخير أصبح يضيق ذرعا بأي نشاط سلمي حتى لو كان محاضرة أو ندوة بين أربعة جدران. ومن المظاهر الخطيرة في كل هذا أن المواطن أصبح أحيانا يجبر على عدم مغادرة منزله أو المدينة التي يقطنها كامل اليوم حتى لا يحضر نشاطا بهذه الجهة أو تلك. وهذه الممارسة لا يتذكر التونسيون أنهم عرفوها حتى في عهد الاستعمار أو في أحلك فترات النظام البورقيبي. فهي بدعة من بدع نظام بن علي ولا تنطبق عليها سوى صفة واحدة وهي صفة الفاشستية. وإذا كان لهذه الممارسات من مغزى فهو تفاقم الأزمة السياسية لهذا النظام. فالانغلاق لا يدل إلا على عجز نظام بن علي عن إدارة شؤون البلاد والتعاطي مع القضايا المطروحة بغير الأساليب القمعية التي أصبحت طاغية في كل المجالات.

ومن الواضح أن طغيان الأساليب الأمنية القمعية هذه الأيام لا يعود إلى طبيعة النظام الجوهرية فحسب بل كذلك إلى أسباب ظرفية، منها على الأقل سببين رئيسيين: أولهما، تفاقم المشاكل الاجتماعية وخاصة منها البطالة والفقر. فنظام بن علي بيّن عجزه عن معالجة مشكلة البطالة، وهو لا يتوانى عن الاعتداء باستمرار على قوت الشعب، فالزيادة في الأسعار، وقد زادت أسعار بعض المواد الأساسية هذه الأيام (زيت، غاز، فرينة..)، لا تتوقف. وتزداد نتيجة ذلك مصاعب العيش حتى بالنسبة إلى الفئات الوسطى التي كانت قبل عقدين من الزمن في بحبوحة نسبية. في الوقت الذي يزداد فيه ثراء "العائلة المالكة" التي تستولي على كل شيء في البلاد. وتخشى السلطة تزايد الاحتجاجات الاجتماعية خصوصا وأن الأشهر الأخيرة شهدت إضرابات في قطاعات أساسية (تعليم، صحة، بريد..) حققت نجاحات منقطعة النظير. لذلك يشدد نظام بن علي قبضته الأمنية على المجتمع خوفا من انفلات الأمور من بين يديه. وثاني تلك الأسباب، سياسي، وهو أن نظـام الحكم يعيد في الحقيقة إنتاج نفس سيناريو 2004، وإن كان هذه المرة بأكثر حدة. فهو يريد الوصول إلى مهزلة 2009 الانتخابية التي سيكون فيها بن علي "المرشح الفائز" مرة أخرى وبالتالي الرئيس مدى الحياة، بأقل المشاكل حتى تمرّ بـ"سلام" ويظهر بقاء بن علي في السلطة كأنه أمر عادي واستجابة لإرادة شعبية، لذلك تسعى السلطة من الآن إلى قطع الطريق أمام تنامي أي حركة سياسية احتجاجية ذات بال. وهي في هذا المستوى تتضايق بشكل خاص من "هيئة 18 أكتوبر للحقوق والحريات" التي شكلت لأول مرة تجمعا لأهم التيارات الفكرية والسياسية في البلاد حول موضوع الحريات، ومن الوارد أن تتخذ الهيئة المذكورة موقفا صارما من المهزلة الانتخابية المقبلة وتعبئ الرأي العام لرفضها. كما أن السلطة ما تزال تعيش تحت وطأة أحداث ديسمبر2006-جانفي2007 المسلحة وهي تخشى أن يؤدي تعفن الوضع الاجتماعي والسياسي إلى تكرارها رغم الاعتقالات "الوقائية" التي شملت المئات من الشبان المتهمين بالسلفية بمقتضى "قانون الإرهاب" سيء الصيت. ويغنم نظام بن علي من الوضع الإقليمي والدولي المناسب للدكتاتوريات بذرائع مقاومة "الإرهاب" و"التطرف" خصوصا بعد صعود اليميني المتطرف، ساركوزي إلى دفة الرئاسة في فرنسا وتعمق المأزق الأمريكي في العراق وتوتر الأوضاع في فلسطين المحتلة.

وإذا كان نهج نظام بن علي واضحا فالسؤال المطروح هو التالي: هل أن المعارضة السياسية والمدنية أعدّت العدّة لمواجهة هذا الوضع والتخفيف من وطأته على الشعب التونسي؟ لا نعتقد ذلك. فالقوى السياسية والمدنية ما تزال تتخبط في العديد من المشاكل التي تعيق تطورها ووحدتها. فالجمعيات والمنظمات المدنية ما تزال رغم تعرضها للقمع اليومي، تحترز من العمل مع الأحزاب السياسية حول نفس المطالب التي يرفعها كل من جهته. والاتحاد العام التونسي للشغل الــذي يتعرض مناضلـــوه وهيئاته يوما بعد يوم إلى الاعتداء والتضييق، ما يزال بسبب وطأة البيروقراطية عليه، غير واع بما تعدّه له السلطة. وهو لم يستخلص العبرة من أزمات سابقة مثل أزمة 1978 و1985، ويرفض الوقوف بحزم لا إلى جانب القوى الديمقراطية فحسب، بل حتى إلى جانب مناضليه وهياكله لتي تتعرض للقمع والاعتداء. أما الحركة السياسية فهي ما تزال منشطرة حول العمل المشترك، فالبعض ما يزال يتذرع برفض العمل مع "الإسلاميين" ليبقى في انعزاليته ويخفف الضغط على السلطة. وفي داخل "هيئة 18 أكتوبر للحقوق والحريات" ما يزال النسق ضعيفا رغم تمسك الأطراف الأساسية بالعمل المشترك.

وما من شك في أن هذه الأوضاع لا تساعد على التقدم بالمعارضة السياسية والمدنية إلى وضع أفضل، كما أنها لا تساعد على الربط بالحركة الاجتماعية المتنامية من أجل تكوين تيار شعبي واسع لفائدة التغيير الديمقراطي. ونحن لا نرى من بُدّ سوى الاستمرار في النقاش والحوار والعمل من أجل توحيد المعارضة السياسية والمدنية حول الحدّ الأدنى، معولين في ذلك على عاملين أساسيين: أولهما العامل الموضوعي، فنظام بن علي الذي ينزع باستمرار إلى التشدد والانغلاق والقمع، سيوسّع دائرة الغاضبين بما يعزز صفوف المعارضة الديمقراطية. أما الثاني، فهو ذاتي، فكل الحركات السياسية تضررت من سياسة بن علي وهو ما سيدفعها إن آجلا أو عاجلا إلى ضرورة تكتيل قواها وصياغة برنامج حد أدنى للتغيير الديمقراطي يستجيب لتطلعات الشعب.

ونحن في حزب العمال لن ندخر أي جهد من أجل فرز تيار موحد سياسي ومدني من أجل التغيير الديمقراطي، وندعو كل قوى المعارضة الديمقراطية إلى نبذ كافة أشكال الانعزالية وتحمّل مسؤولياتها في مقاومتها للدكتاتورية حتى تفتك مكانها في الساحة عن جدارة، فالوقت للعمل الجاد وليس للمهاترات الكلامية.


الصفحة الأساسية | خريطة الموقع | البريد الالكتروني