الصفحة الأساسية > صوت الشعب > العــدد 262
"... فتحت الرماد اللهيب"
9 نيسان (أبريل) 2008

أخيرا، وكما كان متوقعا، "فعلها" نظام الحكم. فقد قرر معالجة الموقف في الحوض المنجمي عن طريق القمع. داهمت قوات البوليس المنازل في الرديف وأم العرايس خصوصا وقامت بعمليات تنكيل بأتم معنى الكلمة لم ينج منها حتى الأطفال، مستعملة الهراوات والكلاب وخراطيم المياه. وقد اعتقلت العشرات من المواطنين ومن بينهم عدد من النقابيين وقادة الحركة الاحتجاجية من أمثال عدنان الحاجي والطيب بن عثمان وعادل جيار وبوجمعة الشرايطي وبشير العبيدي. وما تزال الحملة القمعية على الرّديف متواصلة حتى اليوم الذي يقابل عشية الاحتفال بعيد الشهداء الذي يعيد إلى الذاكرة اليوم الذي خرج فيه التونسيون إلى الشوارع مطالبين بسيادة لم ينعموا بها بعدُ.

إنّ هذه الممارسات القمعية ليست غريبة عن طبيعة نظام الحكم الاستبدادية التي تجعله يرفض الحوار مع المواطن الذي ما يزال يتعامل معه بعقلية الرّعية الإقطاعية معتبرا مطالبه "استفزازا" أو "شغبا" من تحت أيدي "فئة ضالّة" واحتجاجاته "نيلا من هيبته" أو "تطاولا" عليه وهو لا يقبل منه سوى الإذعان والتحميد والتسبيح على "المنن" التي يخطر له أن يقدّمها إليه حتى وإن كانت فتاتا مغشوشا. ولكن هذه الممارسات تعكس من جهة أخرى ما وصل إليه نظام الحكم من عجز عن إيجاد الحلول للمعضلات التي تعاني منها البلاد. مما جعل الحلول الأمنية تتصدّر معالجاته لأوضاعها المتردّية، في الوقت الذي تصمّ الآلة الدعائية الرّسمية آذاننا بالحديث عن "الانجازات العظيمة" و"الآفاق المشرقة" التي تبرر إبقاء الرّئيس الحالي في الحكم مدى الحياة واستمرار هيمنة حزبه على الحياة العامّة من خلال المهزلة الانتخابية المبرمجة لعام 2009.

لقد انطلقت الاحتجاجات بالحوض المنجمي منذ يوم 5 جانفي الماضي. ورفع المحتجون مطالب مشروعة تندرج ضمن المقومات الأولية للحياة البشرية وفي مقدّمتها الحق في الشغل، الحق في مورد رزق، الحق في ما يسمح للإنسان بتحقيق إنسانيته، بل الجزء الأهم من إنسانيته، وممّا أغاض الأهالي أن الشغل الذي يفترض أن يكون حقا لكل مواطن (امرأة كان أو رجلا) أصبح بكل المقاييس امتيازا تتحكّم فيه الولاءات السياسية من جهة (مع الحاكم أو ضدّه) والرّشوة والارتشاء من جهة ثانية، ولم يجد المواطنون ملاذا لهم حتى في المسؤولين النقابيين "الكبار" لضلوعهم، هم أنفسهم في عمليات الفساد والإفساد والتآمر على لقمة عيش الناس.

إن منطقة قفصة الثرية، لا بطاقاتها البشرية فحسب ولكن أيضا بمواردها الطبيعية التي تتصدّرها مادّة الفسفاط. ولكن، وكما هو معتاد، في النظام الرأسمالي، ومن باب أولى وأحرى في نظام رأسمالي تابع، ومستبدّ، فإن الثروة الطبيعية قد تتحوّل إلى نقمة على الفقراء والبسطاء، وهو ما حصل للحوض المنجمي بقفصة. فقد استنزف رأس المال ما في الأرض من ثروة. كما استنزف ما فيها من موارد مائية لمعالجة الفسفاط ولوّث محيطها بما في ذلك الماء. وإذا كانت الشركة ومن ورائها الدّولة جنت من الفسفاط أرباحا طائلة، فإن أهالي الجهة جنوا في النهاية مزيدا من البطالة والفقر والعطش والأمراض الخطيرة (السرطان، الحساسية...). ولو أن مادّة الفسفاط نضبت في يوم من الأيام فإن هؤلاء سيجدون أنفسهم في صحراء قاحلة بلا موارد عيش، لا صناعة ولا فلاحة ولا غيرهما.

لقد تجاهل نظام الحكم على مدى ثلاثة أشهر صرخات الأهالي (ومتى استمع الاستبداد إلى صرخات ضحاياه؟). وحتى عندما وعد فإنه أخلف وعده (أم العرايس). وحتى عندما غيّر العديد من إطارات الجهة فليس بسبب تقصيرهم في خدمة المواطنين بل إن الأرجح، بل المؤكّد وفق ما يجري اليوم، أنهم أقيلوا لأنهم لم يتعاملوا بالصرامة اللازمة مع الاحتجاجات والمحتجين. وما من شكّ في أن الحل الأمني الذي يلجأ إليه نظام الحكم اليوم هو حل مسدود الأفق. يعمّق الأزمة ولا يحلّها ويفاقم عزلة الاستبداد ويقرّب من نهايته.

إن أهالي الردّيف وأم العرايس والحوض المنجمي عامّة لن يثنيهم القمع عن مواصلة النضال من أجل مطالبهم المشروعة. وما حصل في هذه الجهة يمكن أن يحصل في القادم من الأيام في أي جهة أخرى من البلاد لأن ما يعاني منه أهالي الحوض المنجمي تعاني منه مناطق أخرى. ولا ينبغي الاعتقاد أن الشعب التونسي سلّم أمره للاستبداد. فتاريخه حافل بالنضال. وقد أخطأ كلّ الحكام الذين ضنّوا في وقت من الأوقات أنهم "أخضعوه"، وغرّهم إذعانه الظاهر، "فتحت الرّماد اللهيب" كما قال ابن الجهة، أبو القاسم الشابي.

إن المسؤولية كل المسؤولية تُلقى اليوم على عاتق السياسيين والنقابيين والحقوقيين، على عاتق العمال والمعطلين، والشباب في كافة أنحاء البلاد حتى يعبّروا عن مساندتهم بالوسائل السلمية التي يرتؤونها لأهالي الحوض المنجمي وخصوصا لأبنائهم المعتقلين، وفي مقدّمتهم عدنان الحاجي والطّيب بن عثمان وعادل جيار وبوجمعة الشرايطي وبشير العبيدي من أجل إطلاق سراحهم فورا ودون شروط. وللضغط على السلطات حتى تستجيب للمطالب المشروعة لأهالي الجهة وتفاوض بشأنها من فوّضهم هؤلاء للتحدّث باسمهم ثانيا. هذه هي المسألة العاجلة اليوم. وللحديث بقيّة...


الصفحة الأساسية | خريطة الموقع | البريد الالكتروني