الصفحة الأساسية > صوت الشعب > العــدد 264
بعد لجوئها إلى القمع الموسّع في الحوض المنجمي:
الدكتاتورية النوفمبرية تدخل مرحلة جديدة وحاسمة
تموز (يوليو) 2008

بعد أكثر من شهر من انطلاق الحركة الاحتجاجية بالرديف كنا قد رفعنا أصواتنا عاليا لننبه أكثر من مرة الرأي العام الداخلي والخارجي إلى خطورة الأوضاع وتداعياتها المحتملة. وكتبنا أكثر من مقال على أعمدة "البديل" الإلكتروني حذرنا فيه من احتمال لجوء السلطة في نهاية المطاف إلى الحل الأمني للإجهاز على الحركة وإخمادها ("حذاري من المجزرة في الرديف" منتصف فيفري 2008، "مرة أخرى حذاري من المجزرة" أواخر أفريل 2008...). وقد بنينا تحليلنا لا على طبيعة نظام بن علي الدكتاتوري البوليسي فحسب بل كذلك على العديد من المؤشرات التي كانت تظهر في الواقع (رفض الحوار مع الأهالي، جلب جحافل من قوات البوليس من مختلف الجهات ومحاصرة مدينة الرديف، الاعتداءات المتكررة على النشطاء، الحصار الإعلامي...).

وللأسف الشديد جاءت تفاصيل يوم 6 جوان 2008 لتأكيد مشروعية تخوفاتنا. فقد أقدمت قوات البوليس المتركبة أساسا من عناصر "فرق التدخل" والمسنودة بقوات من "الحرس الوطني" والمئات من أعوان البوليس السياسي السريين إلى إطلاق النار على المواطنين الذين كانوا يقيمون تجمعات وتظاهرات سلمية للمطالبة بالشغل وكانت النتيجة استشهاد الشاب الحفناوي المغزاوي (وهو رابع ضحية منذ انطلاق الأحداث) وسقوط أكثر من عشرين جريحا، البعض منهم إصابته خطيرة مثل حالتي إبراهيم فجراوي وحبروش أحمدي.

ومنذ تلك اللحظة أخذت الأحداث منعرجا خطيرا. فقد اقتحم الآلاف من أعوان فرق مكافحة الشغب (حوالي 7 آلاف عون) المدعومين بأعوان البوليس السياسي البلدة وتوغلوا في ساحاتها العامة وأحيائها لإحكام القبضة على الأهالي وشل حركتهم. وفي الأثناء تم إيقاف العشرات مـــن الشبان لمجرد أنهم شبان. وفي المساء وتحت جنح الظلام توسّعت حملة المداهمات لعشرات المنازل، التي عاث فيها الأعوان فسادا (نهب ممتلكات، تخريب أثاث...) بشكل أعاد إلى أذهان السكان الحملات التأديبية التي كان يقوم بها أعوان "الباي" أو الجيش الاستعماري الفرنسي ضد السكان في القرنين التاسع عشر والعشرين، أو تلك الحملات القمعية التي يقوم بها جيش الصهاينة في غزة أو الضفة لـ"تأديب" الفلسطينيين" أو الجيش الأمريكي في المدن العراقية.

وقد استمرت الصورة على هذه الحالة حتى ليلة 7 جوان 2008 حين أقدمت السلطة للمرة الرابعة أو الخامسة منذ عام 1956، على إقحام الجيش في أحداث اجتماعية داخلية، لقمع المواطنين المحتجين على أوضاعهم المتدهورة. لقد انتشر المئات من عناصر الجيش ببلدة الرديف لمعاضدة قوات البوليس التي عجزت عن السيطرة على حركة الأهالي، وتسهيل انتشارها داخل الأحياء، كما ضربت قوات الجيش طوقا على الجبال المحاذية للرديف لقطع الطريق أمام الشبان الذين كانوا يلتجئون إليها للاحتماء بها. كما سدّت الطريق القادمة من تمغزة لمنع وصول ممثلين عن الأحزاب والجمعيات للتعبير عن مساندتهم للأهالي. ومن المعلوم أن تدخل قوات الجيش حصلت بعد وقت قصير من التقاء بن علي بقادة الجيش بقصر قرطاج.

وخلال الأيّام الموالية استباح البوليس بلدة الرديف. وفعل بها وبأهاليها ما فعل ثم توسعت، بقرار من السلطات العليا بالطبع، حملة الاعتقالات لتشمل بداية من ليلة 21 جوان 2008 قيادات الحركة الاحتجاجية من نقابيين وسياسيين ونشطاء من حركة أصحاب الشهادات العليا المعطلين عن العمل. اعتقل عدنان الحاجي وعادل الجيار والبشير العبيدي والطيب بن عثمان. وتم كالمعتاد تحريك الآلة القضائية التابعة للسلطة التنفيذية والخاضعة لأوامر البوليس السياسي لإضفاء طابع قضائي على القمع المسلط على الأهالي وعلى النشطاء من أبناء الجهة وللتغطية على فظاعات التعذيب الذي سلط على الموقوفين وعلى انتهاك القوانين المتصلة بالاحتفاظ (تزوير تواريخ الإيقاف بالنسبة إلى البعض، عدم إعلام العائلات بالإيقافات...) ولاستصدار أحكام شنيعة على الأبرياء تجاوزت الثلاث سنوات بالنسبة إلى البعض، في انتظار ما ستسفر عنه محاكمة قادة الحركة الذين أحيلوا بتهم إجرامية، وسيحالون في صورة الاحتفاظ بهذه التهم على محكمة الجنايات بقفصة.

وهكذا فإن بلدة الرديف تحولت منذ يوم 6 جوان الماضي، أي يوم إطلاق النار على المواطنين، إلى مدينة أشباح، بل إلى سجن كبير افتقد فيه السكان أحيانا إلى أبسط مقومات العيش ناهيك أن ثمن الخبزة وصل في بعض الفترات إلى 500 مليم. وبالتوازي مع هذه الحالة المرعبة امتدت الهجمة البوليسية إلى مدينة قفصة التي بدأت فيها المحاكمات (الخميس والجمعة من كل أسبوع). فقد عمدت جحافل من البوليس السياسي إلى تطويق منطقة المحكمة ومنع الناشطات والنشطاء ليس فقط من حضور الجلسات التي هي نظريا جلسات عمومية بل كذلك من ارتياد الأماكن العامة من شوارع ومقاه... والاعتداء عليهم بالعنف الفظي والمادي. وانتهى الأمر يوم الأحد 29 جوان إلى الاعتداء بالعنف الشديد على المناضل عمار عمروسية من قبل رئيس فرقة الإرشاد وأحد أبرز جلادي الحركة الاحتجاجية بالحوض المنجمي، المدعو محمد اليوسفي وتهديده للمرة الثالثة، بالقتل أمام العموم. وليس بعيدا عن قفصة تعرض في نفس الفترة (الخميس 26 جوان) السيد عمر قويدر، مراسل جريدة "الطريق الجديد" المقيم بنفطة لاعتداء فظيع على يد عونين من أعوان البوليس السياسي وللتهديد بالقتل إذا استمر في تغطية ما يجري بالحوض المنجمي. أخيرا وليس آخرا أصدر حاكم التحقيق بقفصة يوم السبت 5 جويلية بطاقة تفتيش في حق كل من عمار عمروسية، والفاهم بوكدوس مراسل قناة الحوار.

إن السلطة تريد بكل هذا الإجهاز على الحركة الاحتجاجية بمنطقة الحوض المنجمي، وخارجها (فريانة من ولاية القصرين)، معتقدة أن ذلك سينقذها من الإفلاس والانهيار إن عاجلا أو آجلا. ولكن حساباتها محدودة وضيقة. إن الهمجية التي تعاملت بها مع الأهالي فتحت عيونهم على طبيعة نظام بن علي الاستبدادية، الدكتاتورية، الفاشستية، كما فتحت عيونهم على أن هذا النظام لا علاقة له بهم وإنما هو يمثل حفنة من العائلات المتنفذة التي يشار إليها بالإصبع من شمال البلاد إلى جنوبها ومن الشركات والمؤسسات النهابة الأجنبية، وعلى أنه يعاملهم كرعايا ويرفض، بل يعجز، عن توفير أدنى مقومات العيش الكريم لهم. وبهذه الصورة فقد تعمقت الهوة بينهم وبين هذا النظام. ومن جهة أخرى فإن القمع الذي طال أبناءهم (قمع، تعذيب، قتل، سجن...)، لن يزيد هؤلاء إلا مكانة لدى أولئك الأهالي، ولدى الشعب التونسي عامة، ومهما يكن من أمر فإن قمع انتفاضة أهالي الحوض المنجمي لا يعني بالمرة نهايتها بل إن هذه الانتفاضة تمثل بداية مرحلة جديدة من الحركات الاجتماعية التي لن تقف في حدود الجنوب الغربي بل هي مرشحة للاتساع بالنظر إلى تفاقم البطالة والفقر والتهميش وغلاء الأسعار في الوقت الذي يزداد فيه الثراء الفاحش والاستفزازي للأقلية المحيطة بالقصر، التي تتخذ من الدكتاتورية أداة للحفاظ على مصالحها الأنانية ومواصلة إخضاع الشعب.

وكما وقف حزب العمال الشيوعي التونسي مع أهالي الحوض المنجمي منذ انطلاق تحركاتهم، فإنهم يجدونه إلى جانبهم في مثل هذه الأيام الصعبة، يدافع عن مطالبهم المشروعة التي لا ينبغي أن يطمسها القمع ويطالب بإطلاق سراح أبنائهم الموقوفين وإيقاف قتلة الحفناوي المغزاوي وهشام بن جدو ونبيل بوشوة والطاهر السعيدي ومقاضاتهم، والتعويض عما لحق العديد من العائلات من نهب وتخريب لممتلكاتهم من قبل قوات البوليس (الرديف، المتلوي...

في هـذا العـدد
أخبار
مقالات



الصفحة الأساسية | خريطة الموقع | البريد الالكتروني