الصفحة الأساسية > صوت الشعب > العــدد 271
لا مصلحة للدكتاتورية في الديمقراطية
14 حزيران (يونيو) 2009

بماذا يتميّز الوضع في بلادنا أشهرا قليلة قبل الانتخابات الرئاسية والتشريعية المقررة للخريف القادم؟ الإجابة عن هذا السؤال لا تتطلب جهدا كبيرا. فمن ناحية نلاحظ هجوما سافرا ومستمرا على الحريات. وهذا الهجوم لا يستثني طرفا، سواء كان معترفا به أو غير معترف به، حزبا أو جمعية، مجموعة أو أفرادا، نخبا أو شعبا... ومن ناحية ثانية نلاحظ هجوما على لقمة عيش الشعب، لم تزده الأزمة الاقتصادية سوى اتساعا، فاشتد تذمر الطبقات والفئات الشعبية من تفاقم البطالة وغلاء الأسعار والتهميش والجريمة وتردي الخدمات الاجتماعية. ولا توجد بيد السلطة غير الحلول الأمنية لمواجهة الاحتجاجات الاجتماعية، كما حصل ويحصل في منطقة الحوض المنجمي، حيث لم تتردد في إطلاق النار على الأهالي واعتقال المئات منهم،والتنكيل بهم بسبب تظاهرهم سلميا للمطالبة بتحسين أوضاعهم المعيشية.

ويقترن هذا القمع السياسي والاجتماعي بظاهرة ما انفكت تبرز للعيان وتتحول إلى حديث الناس من شمال البلاد إلى جنوبها وهي ظاهرة الفساد والثراء الفاحش لحفنة من الأشخاص والعائلات المتنفذة المرتبطين مباشرة ببن علي سواء كانوا من أصهاره أو من المقرّبين إليه. فهؤلاء ما انفك كلّ واحد منهم على غرار بلحسن الطرابلسي ومحمد فهد صخر الماطري وعماد الطرابلسي يبني امبراطوريته الاقتصادية والمالية والعقارية مستغلا ما توفره له ارتباطاته بالقصر من تسهيلات وإمكانيات للحصول على القروض دون ضمانات والاستيلاء على أملاك الدولة وعقاراتها والتوسّط في الصفقات العمومية مقابل عمولات خيالية، واغتصاب أملاك الغير وتكسير المنافسين.

وإذا كانت أعمال هذا الرهط من الناس تتمّ في وقت سابق في الخفاء، فهي اليوم تعلن في الوضوح. فبلحسن الطرابلسي مثلا يعرض أملاكه وشركاته في مجلة "جون أفريك" حيث يُقدّم على أنه "تعب وعرق" على ثروته (جون أفريك عدد 2492 بتاريخ 12/18 أكتوبر 2008)، والصحافة المحلية تتحدّث عن أملاك ومشتريات محمد فهد صخر الماطري زوج ابنة بن علي من زوجته الثانية، ليلى الطرابلسي، صاحبة الأملاك والمصالح الكبيرة هي أيضا، والتلفزة الرسمية تظهر عماد الطرابلسي عند تدشين مشروعه التجاري الجديد الضخم (بريكو راما) المبني على حوالي 8 هكتارات "يعلم الله" كيف حصل عليها هذا الشخص المبحوث عنه دوليا في قضايا سرقة... إن الجماعة يضعون أيديهم على مقدرات البلاد الاقتصادية والمالية ويتحوّلون إلى "مليارديرات" بين عشيّة وضحاها عن طريق النهب واستغلال النفوذ في الوقت الذي يعاني فيه الملايين من التونسيات والتونسيين من الفقر وغلاء الأسعار والبطالة فلا يجدون ما يسدّون به رمق الجوع و ما يدفعون لشراء لوازم أبنائهم وبناتهم المدرسية أو للعلاج أو لتسديد معلوم الكراء وفاتورات الماء والكهرباء المرتفعة باستمرار. وحين يتحرّكون للمطالبة بحقوقهم سواء كانوا عمالا أو موظفين أو مزارعين صغارا أو طلبة أو معطلين عن العمل، فالحكومة تسدّ في وجوههم الباب متذرعة بـ"صعوبة الظرف الاقتصادي" وتطلق عليهم إن لزم الأمر بوليسها لينكّل بهم، مؤكدة أنها حكومة الأغنياء ضد الفقراء، بل حكومة العصابات النهّابة على حساب الشعب والوطن، هذه العصابات التي تعمل دون حسيب أو رقيب، بل بحماية من الإدارة والبوليس والقضاء.

واللافت للانتباه أن أفراد هذه العصابات لا يكتفون اليوم بوضع يدهم على الخيرات والثروات بل هم بصدد وضع يدهم على وسائل الإعلام، لإنشاء امبراطورياتهم الإعلامية، علما وأن الحكومة لا ترخّص إلا لهم ولأتباعهم لبعث الإذاعات والتلفزات وشركات الإنتاج السمعية البصرية. فصخر الماطري، وهو أحد أفراد الأسرة المالكة، الذي اختار الظهور بمظهر "رجل الدين"، في هذا الوقت الذي أصبح فيه "التقى والورع" غطاء للتكسّب على ظهور الناس، وضع يده على مؤسسة "دار الصباح" وهو يستعدّ لبعث قناة "الزيتونة" التلفزية بعد أن بعث إذاعة "دينية" تحمل نفس الاسم. ويروّج أن بلحسن الطرابلسي، قد يضع يده على مؤسسة "دار الأنوار" (انظر الطريق الجديد بتاريخ 23/29 ماي 2009) كما أنه من المتوقع أن يحصل سامي الفهري وهو إحدى واجهات الطرابلسية في شركة "كاكتوس" للإنتاج السمعي البصري التي تنهب حاليا مؤسسة التلفزة التونسية، على رخصة لبعث قناة تلفزية خاصة بداية من نوفمبر 2010، هذا علاوة على ملكية إذاعتي موزاييك والجوهرة الراجعة إلى "العائلة المالكة" بواسطات. وإلى ذلك فإن هؤلاء آخذون في الظهور في الساحة السياسية. فبعضهم عضو في اللجنة المركزية للحزب الحاكم (صخر الماطري) والبعض الآخر عضو في مجلس المستشارين (والد صخر)، وقد أصبحوا يدشنون ويشرفون على الاجتماعات الحزبية وغيرها، هذا دون الحديث بالطبع عن الأدوار الخفية التي يلعبونها في القصر، ولكن ظهورهم في العلن مرتبط شديد الارتباط بالترتيبات المستقبلية في خصوص خلافة بن علي. وبهذه الصورة فإن مراقبة هذه الفئات للسلطة السياسية أصبحت أكثر فأكثر مباشرة من خلال الجمع بين الأعمال والمال والإعلام والنفوذ السياسي المباشر. وينبغي أن يكون المرء ساذجا أو انتهازيا حتى لا يدرك أن هذه الفئات التي تحكم اليوم عمليا البلاد عبر بن علي (الذي كشفت منذ مدّة مجلة "فوربز forbes" الأمريكية، دون أن يصدر تكذيب رسمي، عن أن ثروته الشخصية المعلومة انطلاقا من الحسابات الواضحة والممتلكات العينية تقدّر بحوالي 5 مليارات دولار سنة 2007، أي ما يعادل قرابة نصف ميزانية الدولة التونسية)، هي فئات معادية للديمقراطية، لا مصلحة لها في إعلام حرّ "يهتك سرّها" ولا في قضاء مستقل يُسائلها حول ثروتها الفاحشة، ولا في انتخابات حرّّة ونزيهة تفتح الباب للتداول على السلطة، وبالتالي لمحاسبتها وفقدانها ما يوفره لها الاستبداد، وتحديدا وجود بن علي، رئيسا مدى الحياة، من منافع ومصالح. لذلك نفهم اليوم ما يجري في الساحة من اشتداد للقبضة الأمنية على المجتمع واحتداد للقمع السياسي والاجتماعي أشهرا قليلة قبل الانتخابات الرئاسية والتشريعية التي تريدها هذه الفئات المتنفذة مجرّد مناسبة للتمديد لبن علي وتأبيد الديكور الديمقراطي.

ولكنّ ما يبعث على الاستغراب، هو أنه رغم الوقائع اليومية اللجوجة المتعلقة سواء بالاستبداد أو بالفساد المستشريين، يوجد من قادة الأحزاب التي تضع نفسها في صف المعارضة الديمقراطية من ما يزال يساوره الوهم بأن الوقت ما يزال سانحا للسلطة كي "تصلح الأوضاع" وتجعل من الانتخابات القادمة "منعرجا حاسما في تاريخ تونس السياسي نحو الديمقراطية"، وهو يردّد أن إجراء انتخابات حرّة وديمقراطية فيه مصلحة للجميع، سلطة وأحزابا ومجتمعا مدنيا ومواطنين. ومثل هذه المواقف لا يستند إلى تحليل، علمي، موضوعي، يأخذ بعين الاعتبار المصالح الحقيقية لنظام بن علي والفئات الطفيلية والكمبرادورية (العميلة) التي تسنده، بقدر ما يستند إلى أهواء أو رغبات سياسية تحاول النظر إلى الواقع بعيون حولاء لترى ما ليس فيه لتبرير مواقف سياسية انتهازية لا تسهم بأيّ حال من الأحوال في تغيير الأوضاع أو حتى في التهيئة لتغييرها بل هي تسهم في زرع الأوهام وإطالة عمر الاستبداد. فهل يعقل أن 53 سنة كاملة من الاستبداد ما تزال غير كافية لإقناع بعض معارضيـ"نا" بأنّ نظام الحكم لا مصلحة له في الديمقراطية، وهو ليس في حاجة إلى نصيحة من أيّ كان ليدلّه أين توجد مصلحته. إن الشعب والشعب وحده بكل طبقاته وفئاته هو الذي له مصلحة في الديمقراطية، لأنها تمكنه من مسك مصيره بيده وبسط سيادته على خيرات بلاده وثرواتها واستغلالها بشكل عادل لتلبية حاجاته المادية والمعنوية والنهوض بوطنه، أما المستغِلـّون ومصّاصو الدماء من الكمبرادوريين وأصحاب الشركات الأجنبية والدول الاستعمارية فإن الديمقراطية تمثل أكبر خطر عليهم لأنها تقضي على مصالحهم، وهو ما يفسّر تمسكهم بالدكتاتورية أسلوبا ونهجا في الحكم حتى يتمكنوا من الحفاظ على تلك المصالح.

إن التغيير الديمقراطي الحقيقي لا يمكن أن يبنى على الوهم أو اللبس أو التردّد، بل على الوضوح السياسي والتباين مع الاستبداد والقطع معه قولا وفعلا. كما يقتضي التكتيل الفعلي لكافة القوى التي لها مصلحة في الديمقراطية ولف جماهير الشعب حولها، لأنه لا تغيير إذا لم يكن من صنع هذه الجماهير الواعية والمنظمة. وحتى نكون واضحين فإننا لا نعتقد أن المشاركة في انتخابات تجمع كل الأطراف أنها لا تتوفر فيها أدنى الشروط التي تجعلها حرة ونزيهة، من شأنها أن تعبّد الطريق نحو التّغيير الديمقراطي وتسهم في توعية الشعب وليس أدل على ذلك من أن المشاركات في المهازل الانتخابية السابقة كلها لم تجلب أيّ منفعة للشعب التونسي ولم تتقدّم به خطوة واحدة. لقد انتفع منها نظام الاستبداد لما وفرته له من غطاء للتزوير. كما انتفعت منه القوى الانتهازية التي قبلت الرشوة السياسية التي قدّمها إليها نظام الحكم في شكل مقاعد في بالبرلمان أو مجلس المستشارين أو مناصب في الإدارة والشركات العمومية.

إن كل من يسعى بجدية إلى التغيير الديمقراطي من واجبه أن لا يزرع الأوهام في صفوف الشعب بشأن الانتخابات الرئاسية والتشريعية القادمة وأن يقول له كل الحقيقة ويكشف له جميع مناورات الدكتاتورية النوفمبرية، ما ظهر منها وما خفي ويعدّه لمقاطعة هذه الانتخابات إذا استمرّ الوضع على ما هو عليه، وهو سيستمرّ في رأينا، ويعبّئه حول حقوقه الأساسية السياسية والاجتماعية ويطوّر نضالاته حتى تتغيّر موازين القوى لفائدته ويصبح قادرا على إسقاط الاستبداد وإقامة نظامه الديمقراطي.

في هـذا العـدد
أخبار
مقالات



الصفحة الأساسية | خريطة الموقع | البريد الالكتروني