الصفحة الأساسية > إلى الأمام > سلسلة جديدة - عـدد 7 ماي/جوان 2008
سنة الحوار مع الشباب... بالرصاص
حزيران (يونيو) 2008

أعلن النظام سنة 2008 سنة للحوار مع الشباب، وانطلقت آلته الدعائيّة منذ أشهر في حملة واسعة لحشد الرأي العامّ الشبابي و حثه على المشاركة في مختلف فعاليّاته التي تنتظم في مختلف المؤسّسات التي يِؤمّها الشباب من معاهد وكليات عبر سائر مدن و قرى تونس و في تجمعات التونسيّين بالمهجر تحت شعار "الشباب هو الحلّ و ليس المشكل".

إنّ المتأمّل في هذا "الحوار" يلاحظ دون عناء طابعه الديماغوجي و الذي ليس له من هدف إلاّ احتواء موجة التململ التي بدأت تتغلغل في أوسع صفوف الشباب نتيجة المشاكل المزمنة التي يتخبط فيها و التي لم يستطع (أو لم يرد) النظام أن يجد الحلول الحقيقيّة لها.

حوار أم "مونولوغ"؟

إنّ الشرط الأساسيّ التي يجب أن يتوفر في أيّ حوار حتى يكون حوارا حقيقيّا و مثمرا،هو أن يعبّر المشاركون فيه عن أفكارهم ومشاغلهم بكلّ حريّة و استقلاليّة في مختلف المحاور والمواضيع التي يختارونها و يشاركون فعليّا في تحديد نتائجه والحلول التي يبلورها لمختلف المشاكل المطروحة دون وصاية أو نتائج محدّدة مسبقا. كما يجب أن يدور هذا الحوار في أجواء عامّة تتسم بالانفراج و تحترم فيها مختلف الحقوق و الحريات الأساسيّة و ترفع فيها عصا التسلط و الاستبداد حتى يُقـْبـِلَ المشاركون على التعبير عن آرائهم دون خشية المنع أو الملاحقة. فهل يستجيب "الحوار مع الشباب" إلى أبسط هذه الشروط؟

يدور هذا الحوار في أجواء عامّة مازالت سمتها الانغلاق السياسيّ و اشتداد القمع وانتهاك أبسط الحقوق والحريّات، فما زال مئات السجناء السياسيّين و سجناء الرأي يقبعون في السجون، ومازال ضحايا "قانون مكافحة الإرهاب" -وخاصة من الشباب- يساقون بالآلاف نحو محاكمات جائرة لا تتوفر فيها أدنى مقومات المحاكمة العادلة، ومازال التعذيب يمارس على نطاق واسع في محلات البوليس و السجون. كما بقيت أوضاع الحريات على حالها، بل زادت سوءا، فلا حريّة التعبير و الإضراب و التظاهر محترمة ولا حق المواطن في التنظم السياسي أو الجمعياتي أو النقابي مكفول، بل أن المنع و التضييق على النشاط تجاوز "الضحايا التقليديين" من أحزاب و جمعيّات ووسائل إعلام "ممنوعة" ليشمل حتى تلك "المعترف بها" قانونيّا، و أصبح منع الاجتماعات وقمع المظاهرات السلميّة و حجز الصحف و محاصرة المقرّات والمنازل والاعتداء على النشطاء والصحفيّين وتلفيق القضايا ضدّهم ممارسة يوميّة، و أصبح الانخراط في حزب أو جمعيّة أو نقابة أو حتى مجرّد الاقتراب من تجمّع أو المشاركة في حركة احتجاجيّة أو حضور اجتماع عامّ "جريمة" تعرّض صاحبها إلى التعرّض إلى الاعتداء بالعنف والاقتياد إلى محلات البوليس و الطرد من الدراسة أو العمل وحتـّى المحاكمة و السجن. و مع ذلك يجد النظام الوقاحة ليتساءل و يسائل الشباب عن "العزوف عن المشاركة في الشأن العامّ و العمل السياسي والمدني" و يجعلها محورا من محاور "الحوار" معه.

و من الواضح، علاوة على ما سبق، أنّ "الحوار مع الشباب" يفتقد إلى أبسط شروط الحريّة و الاستقلاليّة. فمن البديهيّ أنّ حوارا مستقلا يجب أن تؤطره هيئة مستقلة و ممثلة لمختلف مكوّنات الطيف الشبابيّ و المجتمعي. وعلى عكس ذلك فإنّ الهيئة التي تشرف على "الحوار مع الشباب" معيّنة انفراديّا من طرف نظام الحكم من بين كوادر الدولة و الحزب الحاكم، و يرأسها "الصادق شعبان" أحد أبرز رموز النظام و عقوله المدبّرة. كما أنّ حوارا حرّا يجب أن يتيح للجميع إمكانية المشاركة دون إقصاء بسبب الانتماء أو الاختلاف في الرأي وأن يضمن للمشاركين فيه اختيار محاوره بما يستجيب لمشاغلهم و التعبير عن آرائهم نقدا و اقتراحا دون رقابة أو وصاية. أمّا "الحوار مع الشباب"، فعلاوة على الفرز المسبق لمنشـّطيه و المشاركين فيه، حيث أستثني منه كلّ "المغضوب عليهم" من نقابات و جمعيّات و أحزاب و مناضلين، فإنّ محاوره محدّدة مسبقا بما يتماشى وبرامج السلطة ومشاغلها و أولويّاتها هي لا برامج و مشاغل و أولويّات الشباب. وهي محاور تدور حول "الأفكار المفاتيح" في خطاب السلطة ودعايتها من قبيل "الهويّة التونسيّة" و "الولاء لتونس" و" الانفتاح ونبذ العنف والتطرّف" و "الاعتماد على الذات" و"تشجيع المبادرة الفرديّة"... والتي ليست إلا المسوغات الديماغوجيّة لتغليف سياسة الاستبداد و الحكم الفردي و مصادرة حق نقد السلطة و التشهير بانتهاكاتها للحقوق الأساسيّة لجماهير الشعب والشباب، و"تزويق" التبعيّة و الارتهان للامبرياليّة، وتقنيع تنصّل الدولة من مسؤوليّاتها الاقتصاديّة و الاجتماعيّة من تشغيل و خدمات أساسيّة ورعاية اجتماعيّة و تنمية، و تمرير التوجهات الليبراليّة اللاشعبيّة من تفويت في المؤسسات العموميّة و تسريح الشغالين و دعم الرأسماليّين المحليّين و الأجانب على حساب لقمة عيش الطبقات الكادحة...
إنّ هذه الملابسات التي يدور فيها "الحوار مع الشباب" جعلت منه مسرحيّة ممجوجة كغيرها من "الحوارات" و"الاستشارات" و"الاستفتاءات" و"الانتخابات" و سائر مناسبات الديكور الديمقراطي، و جعلت الاهتمام به في صفوف الشباب جدّ محدود رغم الحملة الدعائيّة و"التسويقيّة" الهائلة التي تنظمها السلطة و أبواقها منذ أشهر دون انقطاع، وجعل الإقبال التلقائيّ عليه شبه منعدم رغم ما رصدته السلطة للمشاركين من تشجيعات و حتـّى "جوائز" ماديّة.

السلطة هي المشكل و ليست الحلّ

ليس من الخفيّ أنّ أهداف "حوار" من هذا النوع و نتائجه معلومة مسبقا: "ميثاق شبابيّ" على قياس السلطة تحاول أن تضفي به شرعيّة زائفة على سياساتها الفاقدة للشرعيّة، و مناورة تريد أن تحتوي عبرها بوادر التمرّد في صفوف الشباب الذي يتخبط في أزمة حادة تتفاقم باستمرار نتيجة لخيارات نظام الحكم الاقتصاديّة و الاجتماعيّة، وقناعا تريد أن تخفي به مسؤوليتها عن المشاكل المتراكمة التي يعانيها الشباب و الشعب التونسي عموما من بطالة و تهميش و انهيار المقدرة الشرائيّة وتفشيّ الآفات الاجتماعيّة من جريمة وادمان و "حرقة"... إلخ.

و من جهة أخرى، فإنّ تنظيم السلطة "للحوار مع الشباب" إقرار ضمنيّ بعجزها عن إيجاد الحلول للمشاكل التي يعانيها. والشعارات التي تردّدها حول الدور الذي يجب أن تلعبه الأحزاب و الجمعيّات ومختلف مكونات المجتمع المدني في "معاضدة جهود الدولة" - رغم وضوح زيفها و تناقضها السافر مع واقع الحصار و القمع الذي تعانيه الأحزاب والجمعيّات و مختلف المنظمات المستقلة – تفضح محاولة النظام التفصيّ من مسؤوليّة نتائج خياراته و انعكاساتها المدمّرة على أوضاع الشباب والمجتمع ككلّ.

إنّ الشباب التونسي ليس بحاجة إلى المزيد من الخطب الكاذبة حول "المكاسب" والانجازات"، ولا إلى المزيد من الشعارات الجوفاء و المسرحيات الرديئة التي تلعب فيها السلطة و أتباعها و بيادقها دور المخرج والممثل و الجمهور، و لا إلى الاستماع إلى نفس الجوقة تؤدّي عزفها المنفرد المعتاد على طريقة "الطير يغنيّ و جناحه يردّ عليه". إنّ الشباب التونسي بحاجة إلى حلول حقيقيّة وملموسة للمشاكل الخطيرة التي يعانيها، بحاجة إلى إصلاح جذريّ لمنظومة التعليم يعيد الاعتبار لدوره في تملك ناصية العلم و الفكر والمعرفة و يجعل من المؤسسة التعليمية منارة للفرد و المجتمع، بحاجة إلى سياسة اقتصاديّة شعبيّة و وطنيّة تفتح أمامه آفاق الشغل وتحقيق ذاته و تطوير مواهبه و طاقاته والمساهمة في تنمية البلاد و تقدمها و تنتشله من غول البطالة والتهميش و أوهام الهجرة والربح السهل، بحاجة إلى حركة ثقافيّة تقدميّة و رائدة تخرجه من غياهب الظلاميّة و من متاهات التفسخ والانحلال و تمكنه من صقل شخصيّته والتصالح مع هويّته في مختلف أبعادها وإثرائها بمكاسب الحضارة الإنسانيّة... و في كلمة، فالشباب التونسيّ بحاجة إلى ما يعيد له الثقة في نفسه و وطنه ومستقبله. و نظام بن علي البوليسي، يد الامبرياليّة المطبقة على بلادنا و راعي الفساد و عائلات المافيا التي تنهب قوت شعبنا، لأبعد أن يحمل في جرابه أيّا من هذه الحلول. و فاقد الشيء لا يعطيه!

السلطة لا تعرف غير لغة القمع

إن نظام الحكم الذي يدّعي الحوار مع الشباب هو الذي كان على الدوام رافضا الحوار مع أيّ صوت مستقلّ، و لم تكن له إزاء مطالب مختلف القوى السياسيّة و المدنيّة والاجتماعيّة إلاّ إجابة واحدة: القمع و المزيد من القمع. و لم يفتح من أبواب أمامها سوى أبواب المعتقلات و المحاكم الجائرة و السجون.

إنّ نظاما يدعي "الحوار مع الشباب" لأجدر به أن ينصت لصوت مئات الآلاف من المعطلين عن العمل و الذين لم ينالوا منه سوى التسويف و"الحلول" الترقيعية و لم يقابل حركاتهم الاحتجاجيّة و المطلبيّة و مختلف الأطر التي حاولت تنظيم صفوفهم إلا بسياسة العصا الغليظة. فأيّ حوار ذلك الذي يدّعيه النظام؟ و هو يحاصر منذ ستة أشهر شباب وأهالي الرديّف و المتلوّي و أمّ العرايس وغيرها من مدن الحوض المنجمي بحشود مهولة من قوات البوليس و يعطيها الضوء الأخضر لتعنف و تعتقل و تعذب من تشاء، وتقتحم البيوت والمتاجر و المقاهي و تنهبها وتنكل بأصحابها، بل يصل به الأمر إلى إطلاق الرصاص الحيّ على الشبان المتظاهرين في الرديّف دفاعا عن حقهم في الشغل و الحياة الكريمة فيوقع الشاب حفناوي المغزاوي شهيدا وعشرات الجرحى و لا يتورّع بعد ذلك على نعتهم "بالمشاغبين"، بعد أن كان زبانيته قد قتلوا الشهيد هشام بن جدّو العلايمي (تبديت-معتمديّة الرديّف) صعقا بالكهرباء و الشهيد نبيل شقرة (المتلوي) الذي دهسته سيارة حرس كانت تلاحقه. وأي حوار يدّعيه النظام؟ وهو يسوق العشرات من الشبان الموقوفين في تحرّكات الرديف و أم العرايس و المتلوّي وفريانة وغيرها إلى محلات التعذيب الوحشيّ و المحاكمات الجائرة ويلقي بهم في السجون، و يجبر المئات غيرهم (خاصة في الرديّف) على التحصّن بالجبال اتقاء من شرّ المداهمات المتكرّرة لمنازلهم وعمليات التمشيط المتواصلة لأحيائهم و ما يرافقها من اعتقالات وتنكيل.

لقد نزعت طريقة تعامل النظام مع حركة الحوض المنجمي التي تستمرّ منذ جانفي الفارط آخر أوراق التوت عن عورته. وبيّن تجاهله لمطالبها المشروعة في الشغل و الحياة الكريمة وفي تنمية جهويّة عادلة، و الجرائم التي ترتكبها منذ ستة أشهر السلط الجهويّة والبوليس وميليشيات الحزب الحاكم في حقّ أهالي الرديّف خاصّة و غيرها من المدن والقرى التي تشهد تحركات احتجاجيّة رغم الدعوات المتكرّرة التي أطلقوها من أجل الحوار، بيّن بالكاشف أن نظام بن علي هو من يرفض، مرّة أخرى، الحوار مع المجتمع ومختلف مكوّناته و فعاليّاته و أنه لا يعرف سوى لغة واحدة هي لغة القمع و ليس له من حلّ ليقدّمه إلا الحلّ الأمني.

إنّ شباب تونس يدرك جيّدا أن ليس له ما يرتجيه من نظام الاستبداد و الفساد والمافيا، ويدرك جيّدا أن الحلول لمشاكله لا يمكن أن تكون إلا على أنقاضه. و هذا الشباب قادر، متى توفرت له الشروط الذاتيّة و الموضوعيّة الملائمة، أن يقلب موازين القوى الحاليّة و أن يقوّض دعائم القهر و الاستبداد. إنّ الحركة الباسلة في الحوض المنجمي و في الرديّف خاصّة هي مقدّمة لانتفاضة شبابيّة و شعبيّة عامّة تلوح في الأفق...

و لا بدّ للقيد أن ينكسر!


الصفحة الأساسية | خريطة الموقع | البريد الالكتروني