الصفحة الأساسية > البديل الوطني > قضيّة تختزل العلاقة العدائية بين الدكتاتورية النوفمبرية والشعب التونسي
عودة إلى محاكمة قادة الحركة الاحتجاجية بالحوض المنجمي:
قضيّة تختزل العلاقة العدائية بين الدكتاتورية النوفمبرية والشعب التونسي
كانون الأول (ديسمبر) 2008

مهزلة أخرى أضيفت يوم 11 ديسمبر الجاري إلى السجلّ الأسود للقضاء التونسي والدكتاتورية النوفمبرية. فقد أصدرت المحكمة الجنائية بقفصة أحكامها في ساعة متأخرة من ليلة ذلك اليوم في قضية الحوض المنجمي التي شملت 38 من قادة الحركة الاحتجاجية التي شهدتها المنطقة طوال النصف الأول من هذا العام وما تزال متواصلة وإن بشكل متقطع إلى اليوم، وقد صدرت الأحكام دون استنطاق عدنان الحاجي ورفاقه ودون مرافعات المحامين. وجاءت الأحكام كالآتي:

10 سنوات وشهر سجنا:

- عدنان الحاجي
- بشير العبيدي
- الطيب بن عثمان
- عادل جيار
- طارق حلايمي

وهم بحالة إيقاف،

- ماهر فجراوي
- حسن بن عبد الله

وهما بـ"حالة فرار" وقد حكم عليهما مع "الإذن بالنفاذ العاجل".

6 سنوات وشهر سجنا:

بحالة إيقاف:

- فيصل بن عمر
- سامي بن أحمد (شهر عميدي)
- هارون حلايمي (شقيق طارق حلايمي)
- غانم شريطي
- مظفر العبيدي (ابن بشير العبيدي وهو تلميذ بقسم الباكالوريا)
- رضا عز الديني
- عبد السلام الهلالي
- عبيد الخلايفي

بحالة سراح:

- رشيد عبداوي

6 سنوات

الفاهم بوكدوس (مراسل قناة الحوار التونسي)، وقد حكم عليه غيابيا.

4 سنوات وشهر سجنا:

- بوبكر بن بوبكر
- حفناوي بن عثمان
- محمود الردادي
- الهادي بوصالحي

سنتان وشهر سجنا:

- ثامر مغزاوي
- عصام فجراوي
- رضا عميدي

وهم بحالة سراح

- محي الدين شربيب، وقد حكم عليه غيابيا

سنتان سجنا مع تأجيل التنفيذ

- معاذ الأحمدي
- عبد الله الفجراوي
- محمد البلدي
- رضوان بوزيان
- مكرم الماجدي
- عثمان بن عثمان
- محمود الهلالي
- محسن عميدي

عدم سماع الدعوى

- بوجمعة شريطي
- الحبيب الخذيري
- لزهر عبد الملك
- علي الجديدي
- إسماعيل الجوهري

1 - انطلاق الجلسة وسط حصار أمني واستفزازا للعائلات والمحامين:

انطلقت الجلسة حوالي الساعة التاسعة صباحا في أجواء متوتّرة. فقد حوصرت قفصة بأعداد غفيرة من أعوان البوليس الذين جُلبوا في حافلات من جهات مختلفة لمراقبة مداخل المدينة والتثبت من هويات الوافدين عليها. كما ضرب طوق حول المحكمة. ولم يتمكن من دخول القاعة سوى المحامون وعدد محدود من أفراد عائلات الموقوفين وبعض الوجوه السياسية والنقابية والملاحظين الأجانب، الأول عن هيئة محامين باريس وهيئة مراقبة المدافعين عن حقوق الإنسان والشبكة الأورومتوسطية لحقوق الانسان والثاني عن اللجنة من أجل احترام الحريات وحقوق الإنسان في تونس، والثالث عن "الفدرالية النقابية الموحّدة".

وما أن أحال رئيس المحكمة الكلمة للسان الدفاع حتى طالبت الأستاذة راضية النصراوي باسم المحامين الذين قدّموا إعلامات جديدة بالنيابة بتأخير القضية حتى يتمكنوا من الاطلاع على الملف ومن زيارة منوبيهم في السجن مبينة أنه لا يمكن تلاوة قرار دائرة الاتهام واستنطاق "المتهمين" قبل أن يزورهم محاموهم. كما تقدم الأساتذة عبد الستار بن موسى ومختار الطريفي وزهير اليحياوي وشكري بلعيد، بنفس الطلب مثيرين مجددا طلبات شكلية وإجرائية، كانت المحكمة تجاهلتها في الجلسة الأولى التي انعقدت قبل أسبوع أي يوم 4 ديسمبر 2008. وتتمثل هذه الطلبات القانونية في إحضار المحجوز وسماع الشهود وعرض الموقوفين على الفحص الطبي، واستجلاب دفاتر الاحتفاظ بمراكز البوليس للتثبت في تواريخ الإيقاف.

ولكن المحكمة تجاهلت طلبات الدفاع ومرت مباشرة إلى استنطاق "المتهمين"، الذين رفضوا الإجابة على أسئلة القاضي داعمين طلب المحامين بتأخير الجلسة، فسارعت المحكمة برفع الجلسة "للتفاوض وإصدار الحكم". فبقي الحاضرون في القاعة مبهوتين، لا يصدقون ما يسمعون لتنافيه المطلق مع القانون ومع الشروط الدنيا لمحاكمة عادلة إذ أنه حتى في صورة امتناع "المتهمين" امتناعا مطلقا عن الإجابة، وهو ما لم يحصل، إذ أنهم كانوا مستعدين للجواب إذا تمّ توفير الضمانات اللازمة لهم للدفاع عن أنفسهم، فإن المحكمة ملزمة بالسماح للمحامين بالترافع.

ولما غادرت هيئة المحكمة القاعة ردد الموقوفون نشيد الثورة (النشيد الرسمي الحالي) ورفعوا شعارات تدين القمع والجور (الثبات.. الثبات.. ضدّ حكم المافيات). فتدخل البوليس بعنف وأخرجهم من القاعة وقد يكون واصل الاعتداء عليهم في كهف المحكمة، وهو ما أثار احتجاجات العائلات (التي ردّت بالهتافات والزّغاريد) والمحامين. فما كان من البوليس إلا أن عمد إلى إخراج العائلات وأغلبها من النسوة، من قاعة بالقوة. ولم يتورع عن الاعتداء على أحد المحامين وهو الأستاذ فريد العلاقي. ولم تسلم العائلات من السبّ والشتم خارج المحكمة. وقد لاحق العشرات من أعوان البوليس السيدة عفاف بالناصر، زوجة الفاهم بوكدّوس، مراسل قناة الحوارالتونسي. وعمد كل من سامي اليحياوي رئيس الإقليم وفاكر فيالة رئيس المنطقة ومحمد اليوسفي رئيس فرقة الإرشاد الذين كانوا يمتطون سيارة من نوع "كليو" زرقاء اللون إلى تتبّعها فوق الرصيف وقذفها بعبارات بذيئة وتهديدها بالاعتداء. كما شتموا المحامين الذين ساعدوها على دخول قاعة الجلسة والتهديد بـ"إدخال عصى في دبر كل واحد منهم" واصفين إياهم بـ"كمشة من الموبـ...".

ومن الملاحظ أن أحد المحالين بحالة سراح وهو السيد بوجمعة شريطي، نقابي بقطاع الصحة، كان تعرّض عشية المحاكمة إلى الاختطاف، من قبل أعوان البوليس بالرديف، وهو في سيارة أجرة، ونقل إلى المركز حيث تم تعذيبه بشكل وحشي واحتجازه ليلة كاملة لا لشيء إلا لأنه "من جماعة عدنان الحاجي". وقد جاء بوجمعة الشريطي إلى المحكمة وهو يحمل آثار التعذيب الذي تعرّض له. ومن ناحية أخرى عمد البوليس السياسي إلى استفزاز العديد من المناضلين السياسيين والنقابيين والحقوقيين الذين منعوا من دخول قاعة الجلسة وبقوا في محيط المحكمة، وإجبارهم على مغادرة المقاهي والابتعاد عن المكان.

وفي المساء تم غلق كل المقاهي القريبة من المحكمة وعمد البوليس إلى إحكام الطوق حول محيط المحكمة وطالت الاعتداءات اللفظية العديد من النشطاء والناشطات كما تمّ الاعتداء بالعنف الشديد على العديد من الحضور من بينهم غزالة المحمدي وماهر حنين... ومرة أخرى كانت الاعتداءات من قبل فاكر فيالة رئيس منطقة الشرطة ومحمد اليوسفي رئيس فرقة الإرشاد والجلاد سامي المقدمي وبالتوازي مع ذلك تم جلب تعزيزات أمنية مكثفة لخنق مدينة الرديف مما عزز الانطباع بأن الأحكام جاهزة.

وقد تعرّض العديد من المسؤولين النقابيين إلى المضايقة والمنع من العودة إلى قاعة الجلسة بعد فترة الانقطاع التي عرفتها (المستوري عضو النقابة العامة للتعليم الأساسي وقاسم عفيّة كاتب عام جامعة الصحة وزميله عثمان جلولي) وتجدر الإشارة إلى أن السيد رشيد عبداوي المحال بحالة سراح في نفس القضية والذي غادر المحكمة لقضاء بعض الشؤون الخاصة قد منعه البوليس السياسي حتى وقت متأخر من العودة إلى قاعة الجلسة رغم استظهاره بالاستدعاء ورغم تدخّل بعض المحامين.

وفي ساعة متأخرة من الليل، حوالي الحادية عشرة عادت هيئة المحكمة إلى الجلوس لتعلن الأحكام ولكنها كانت منقوصة من عضوين، وقد أُشيع في الأيام اللاحقة للمحاكمة أنّ العضوين المعنيين لم يكونا راضيين على ما جرى وأنهما اضطرّا اضطرارا إلى الإمضاء على الحكم ولم يحضرا الجلسة احتجاجا، ولا ينبغي الاعتقاد أن هيئة المحكمة قضت الساعات الطوال في التفاوض، فقد كان من الواضح أن الأحكام كانت جاهزة منذ الظّهر ولكن وقع تأجيل إعلانها إلى ساعة متأخرة من الليل لتجنّب التجمعات والاحتجاجات بالرّديف ومنطقة الحوض المنجمي، فقد لاحظ النّاس وجود تعزيزات أمنية مكثّفة بقفصة وخصوصا بالرديف منذ العشيّة مما يعني أن الأحكام كانت جاهزة وأن السلطات استعدّت لردود الفعل.

2 - لماذا رفضت المحكمة طلبات المحامين؟

ولسائل أن يسأل: لماذا رفضت المحكمة طلبات المحامين رغم أنها قانونية وهي تندرج ضمن الشروط الدنيا للمحاكمة العادلة التي من واجب القضاء احترامها؟ ولماذا سارعت برفع الجلسة عند امتناع الموقوفين عن الجواب على أسئلتها احتجاجا على عدم تمكينهم من الوقت اللازم لإعداد الدفاع عن أنفسهم؟ إن الجواب بسيط. فمن الواضح أن هيئة المحكمة تلقت تعليمات من السلطة التنفيذية بعدم تأجيل القضية والإسراع بحسمها في هذه الفترة بالذات، أولا لعدم ترك الوقت لتعبئة الرأي العام الداخلي، وثانيا لاستغلال انشغال الرأي العام في الخارج وخاصة في أوروبا بأعياد رأس السنة وهو ما يعسّر حضور عدد كبير من الملاحظين الأجانب لمتابعة أطوار القضية. وثالثا، لحماية البوليس من المحاسبة عن الجرائم التي ارتكبها على حساب الموقوفين. ورابعا، وهذا هو الأهمّ لتجنّب تحويل المحاكمة إلى محاكمة لنظام بن علي وسياساته اللاشعبية واللاديمقراطية.

أ) طمس قضية التعذيب

لقد طالب المحامون بعرض الموقوفين على الفحص الطبي. وهو مطلب قانوني، ينص عليه الفصل 13 مكرر من مجلة الإجراءات الجزائية، كما تنص عليه الاتفاقية الدولية لمناهضة التعذيب التي وقـّع عليها نظام بن علي. وقد بنى المحامون طلبهم على أمور ملموسة تتمثل أولا في أن كل الموقوفين تقريبا اشتكوا من تعرّضهم للتعذيب وذكروا بالاسم جلاديهم (محمد اليوسفي، بلقاسم الرابحي...)، وثانيا في وجود آثار مادية للتعذيب في أبدان منوبيهم رغم مرور أشهُر على إيقافهم. وثالثا وهو أمر على غاية من الأهمية في تنصيص حاكم التحقيق في قرار ختم البحث الذي حرره على أنه عاين بنفسه آثار التعذيب في العديد من الحالات. ونذكر في ما يلي ما ورد في هذا القرار من هذه المعاينة:

طارق حلايمي: "عاينا أثر ذلك (أي التعذيب – من عندنا -) بركبته اليسرى وكفيّ يديه" (ص9)

بشير العبيدي: "وأضاف بأن الباحث مارس معه شتى صنوف الإهانة والتعذيب الجسدي في شخص المسؤول عن البحث (بلقاسم الرابحي) وتهديده بالقتل وشمل نفس السلوك الأمني منظوره مظفر وهدّد بأن يتم الاعتداء عليه بفعل الفاحشة وذلك على مرأى من ابنه المذكور بعد تجريده من ملابسه وباقي الشبان الموقوفين وهو ما دفع به إلى مطالبة الباحث المشار إليه بتحرير أي محضر وتمكينه من إمضائه). (ص 11).

محمود ردادي: "عاينا أثرا لذلك على مستوى أغلب أطراف بدنه" (ص 15)

حفناوي بن عثمان: "عاينا أثرا لذلك بفخذه الأيسر وبكتفه الأيمن" (ص 16)

ثامر المغزاوي: عاينا أثرا لذلك على مستوى رجليه ومعصم يده اليمنى" (ص16)

رضا عز الديني: "كما أنه تعرّض إلى التعذيب بمقر منطقة الشرطة بقفصة بواسطة غل إداري على مستوى الذقن مما تسبب له في جرح (عاينا ذلك) كما شمل التعنيف يديه وفخذيه وكذلك رجليه (عاينا ذلك) (ص 17)

معاذ أحمدي: "عاينا خدوشا بسيطة بظهره وآخر بجنبه الأيسر وخدشين برجله اليمنى" (ص 17)

عبد السلام هلالي: عاينا آثار ذلك على مستوى خنصر يده اليمنى والرقبة" (ص18)

عبد الله الفجراوي: "أكد أنه فقد السمع بأذنه اليسرى" (ص19)

عثمان بن عثمان: "عاينا خدشين على مستوى ذراعه الأيسر وآخر على مستوى المرفق الأيمن وادعى أنه يحس بأوجاع على مستوى العمود الفقري وادعى كذلك أنه أجبر على الاعتراف مخافة الاعتداء عليه بفعل الفاحشة". (ص 22)

غانم شرايطي: "وتم اقتياده في ذات اليوم إلى مقر منطقة الشرطة بقفصة والاحتفاظ به أين شرع الأعوان في تعنيفه وتعليقه بين طاولتين بعد شدّ وثاقه وتجريده من كامل ملابسه وعمدوا إلى الاعتداء عليه بفعل الفاحشة بأن أدخلوا عصى بمؤخرته ودعوه إلى الأجابة عن أسئلتهم التي تمحورت حول ما جدّ من أحداث بالرديف، ورغم نفيه صلته بالموضوع تولـّى الأعوان تهديده بقتله بواسطة ساطور ثم أجبر في وقت لاحق على إمضاء أوراق لا يعرف محتواها، وأضاف أن التعذيب الذي ناله أثّر على عموده الفقري بحيث لم يعد قادرا على المشي والجلوس براحة (عاينا ذلك). (ص 23)

هارون حليمي: "عاينا نفخا بكفيه وانتفاخا بساقيه وخده الأيسر. ولاحظ أن الباحث مارس ضده وبحضور شقيقه طارق أعمالا لا أخلاقية". (ص 24)

مظفر العبيدي: "عاينا أثرا لذلك على مستوى الركبة اليمنى والذراع الأيمن والكتف الأيسر" (ص 25)

محمود هلالي: وأكد أنه دعي لإمضاء محضر تحت التهديد بالقتل إضافة إلى إذلاله معنويا والاعتداء عليه بالعنف على مستوى الأذن اليمنى والعين اليسرى وعلى مستوى جنبيه، مما أثّر على حالته الصحية وجهازه البولي بالتحديد". (ص 26)

الأزهر بن عبد الملك: "عاينا أثر جرح على مستوى الرجلين وزرقة براحة اليد اليسرى" (ص 36).

هذه عينات مما ورد في قرار ختم البحث. فهل يوجد، قانونيا ما هو أبلغ وأوثق من إقرار حاكم التحقيق، رغم عدم استقلاليته ورغم خضوعه للسلطة التنفيذية، بوجود آثار تعذيب في أجساد "المتهمين" علما وأنه اضطرّ إلى الإشارة إلى هذه الآثار بضغط من الضحايا ومحامييهم؟ ومع ذلك فإن حاكم التحقيق بعد أن عاين آثار التعذيب وبالتالي تأكد من حصوله وسجّل ذلك كتابيا، لم يبادر بإحاطة النيابة العمومية علما بذلك لفتح بحث في الأمر. كما أنه لم يأذن مثلا بعرض عبد الله الفجراوي الذي ذكر أنه فقد السمع بأذنه اليسرى على طبيب للتثبت في صحة تصريحاته، كما أنه لم يعرض مظفر العبيدي الذي أكّد أنه تعرّض للاعتداء بالفاحشة (إدخال عصى بدبره أثناء التعذيب) للتحقق من ذلك. ومن جهة أخرى فإنه لم يطبّق ما جاء في المادة 15 من الاتفاقية الدولية لمناهضة التعذيب من تنصيص على عدم الأخذ بعين الاعتبار الاعترافات المقتلعة بالتعذيب واعتبارها لاغية، بل على العكس من ذلك اعتمد حاكم التحقيق هذه الاعترافات لتوجيه الاتهام إلى الموقوفين معتبرا تأكيداتهم بأنهم وقعوا على المحاضر تحت الإكراه ودون الاطلاع عليها "تفصيا من مسؤوليتهم الجزائية" (ص 45). وإلى ذلك فإن النيابة العمومية لم تحرّك ساكنا بعد أن اطلعت على ملف القضية والحال أن من صلاحيتها إثارة الدعوة كلما بلغ إلى علمها حصول جريمة. كما أن دائرة الاتهام وافقت على قرار ختم البحث شكلا ومضمونا ولم يُثرها ما ورد فيه من معاينة لآثار التعذيب. والغريب في الأمر أن قرار دائرة الاتهام خلا من ذكر القضاة الذين تتركّب منهم هذه الدائرة وهو ما يجعل قرارهم ملغى قانونيا ويؤكد أنه صدر على عجل وربما دون اطلاع القضاة عليه بل قد يكون أحد الأشخاص تولى بمفرده إضافة فقرة في مقدمة قرار ختم البحث باسم دائرة الاتهام ومرره إلى المحكمة للإسراع بتعيين الجلسة والحكم على الموقوفين*.

وقد واصلت هيئة المحكمة بقفصة نفس السلوك إذ أنها رفضت إحالة الملف على النيابة العمومية للبحث في قضية التعذيب كما رفضت عرض الضحايا على الفحص الطبي، وهو ما يؤكد مرة أخرى تورط القضاء التونسي في ممارسة التعذيب التي أصبحت مع بن علي ممارسة ممنهجة، فالقضاء يحمي الجلادين ويمكّنهم من الإفلات من العقاب ويضفي على محاضرهم المزورة شكلا ومضمونا صبغة قانونية. وهذا السلوك يمثل جريمة موجبة للعقاب في نظر القانون التونسي والمواثيق والمعاهدات الدولية ذات الصلة بالموضوع.

إن حاكم التحقيق أجرم. والنيابة العمومية أجرمت. ودائرة الاتهام أجرمت. وهيئة المحكمة أجرمت. وحوّل جميعهم القضاء إلى مجرّد جهاز مساعد للبوليس السياسي.

وإلى ذلك فإنه لا حاكم التحقيق ولا دائرة الاتهام ولا هيئة المحكمة راموا التطرّق إلى ما حصل من إطلاق نار على أهالي الرديف يوم 6 جوان الماضي واستشهاد الشاب حفناوي المغزاوي برصاصة في الظهر وجرح 26 شابا آخرين استشهد أحدهم، وهو عبد الخالق عميدي، متأثرا بجراحه بعد حوالي 3 أشهر من إصابته. كما أنهم لم يثيروا موضوع استشهاد هشام بن جدو بصعقة كهربائية متعمدة، بحضور مسؤولين جهويين وأمنيين كبار ونبيل شقرة الذي استشهد دهسا بسيارة البوليس بالمتلوي. لقد اتضح أن القضاء لا يعتبر نفسه معنيا بكل ذلك وبالصور الحيّة التي قدمتها القنوات التلفزية عن أعمال التخريب والنهب التي ارتكبتها قوات البوليس فهو لا يعتبر هذه الأعمال جرائم تستوجب البحث وتوجب العقاب. بل إنه تجاهلها تماما واعتبرها أعمالا "مشروعة" تندرج ضمن "حماية النظام العام".

ب) إصرار على تجريم الموقوفين

أما في خصوص طلب سماع الشهود فإن الهدف منه هو رفع تهمة تكوين عصابة مفسدين عن الموقوفين وتبيان أنهم أشخاص جادّون ومسؤولون ومدافعون عن قضية عادلة وليس لهم من غرض سوى تلبية المطالب المشروعة للأهالي. وقد أظهروا من أجل ذلك مرونة كبيرة. فقد قبلوا التهدئة أكثر من مرة وألغوا بعض الإضرابات والمظاهرات المبرمجة إما تجنبا للاستفزاز أو تعبيرا عن الرغبة في فض المشاكل عن طريق الحوار والتفاوض. وليس أدلّ على ذلك من أن السلطة فاوضتهم لمدة طويلة. وقد جرت هذه المفاوضات مع مسؤولين محليين وجهويين ومع مسؤولي شركة فسفاط قفصة. كما جرتت مع مسؤولين مركزيين، منهم المنذر الزنايدي وزير الصحة العمومية المقرّب من بن علي، وسامي جاء وحدو المسؤول في وزارة الداخلية الذي فاوض، نيابة عن وزير الداخلية، الحاجي والعبيدي باعتبارهما عضوي "لجنة التفاوض" التي تشكلت خصوصا من نقابيين بالرديف.

وقد عدّد البشير العبيدي لدى استنطاقه من قبل حاكم التحقيق ما قامت به "لجنة التفاوض" من أعمال وما ترتب عن تفاوضها مع السلطات من اتفاقات. ولكن السلطة كانت في الحقيقة تتظاهر بالتفاوض والاستعداد لـ"فضّ المشاكل" ربحا للوقت حتى تعدّ خطة الهجوم على الرديف ومدن الحوض المنجمي. فقد زرعت أعوانها السريين في كامل المنطقة للتعرّف الدقيق على الأحياء والأنهج والشوراع وتحديد منازل القادة والنشطاء وضبط المسالك التي يتبعها الأهالي للاعتصام بالجبال فرارا من همجية البوليس. وما أن تمّ لها ذلك حتى بادرت بالقيام بأعمال استفزازية استغلتها للهجوم على الأهالي والتنكيل بهم وانتهاك الاتفاقات المبرمة مع لجنة التفاوض والتراجع في ما بدأ تنفيذه منها. وهذا ما تريد السلطة إخفاءه وهو ما يريد القضاء طمسه عبر رفض طلب المحامين سماع الشهود، لأنها تدرك أن كشف الحقائق أمام الرأي العام سيبين أنها هي التي تصرّف مسؤولوها في كافة المستويات كعصابة مفسدين وأن "المتهمين" هم الذين تحلوا في كافة المراحل بروح كبيرة من المسؤولية والحكمة.

كما أن المحكمة رفضت جلب "المحجوز" لأنه لا وجود في الحقيقة للمحجوز الذي تحدثت عنه محاضر البوليس، أي العصيّ والهراوات والسلاسل الحديدية والعلب الحديدية المحترقة إلخ. فذلك كله من نسج خيال وزارة الداخلية لتبرير القمع الذي سلط على الأهالي وخاصة إطلاق النار عليهم يوم 6 جوان 2008 وتجريم عدنان الحاجي ورفاقه. وبالطبع فإن رفض المحكمة عرض المحجوز كما هو منصوص عليه قانونا يبين الطابع الملفق للتهم الإجرامية الموجهة إلى عدنان الحاجي ورفاقه.

كما أن المحكمة رفضت استجلاب دفاتر الاحتفاظ بمراكز البوليس التي أوقف فيها عدنان الحاجي ورفاقه لأنها تريد تغطية التجاوزات القانونية التي ارتكبها البوليس والمتمثلة في تدليس تواريخ الإيقاف. إن البوليس السياسي اعتاد تجاوز مدة الاحتفاظ القانونية المحددة بستة أيام لتعذيب الموقوفين أكثر ما يمكن من الوقت وحملهم على الاعتراف أو الإمضاء على محاضر دون الاطلاع عليها ولطمس آثار التعذيب إلخ.. وبعد ذلك يحرر محاضر بتواريخ مزورة تناسب الآجال القانونية.

ت) طيّ الملف دون استنطاق ودون مرافعات

إن هيئة المحكمة تعمدت عدم احترام الإجراءات القانونية لغلق الملف بسرعة وإصدار الأحكام حتى دون استنطاقات ودون مرافعات. ولا يخفى أن الهدف من ذلك هو اجتناب الخوض في القضية أصلا. فالسلطة تدرك أن إجراء محاكمة عادية، من شأنه أن يتيح الفرصة للموقوفين وللمحامين الحديث عن حقيقة ما جرى في الحوض المنجمي من ممارسات همجية ارتكبتها قوات البوليس مدعومة بالجيش على الأهالي (اعتداءات، قتل بالرصاص، نهب وتخريب ممتلكات، تحرّش بالنساء، تعذيب...)، وهي ممارسات أكّد العديد من الشيوخ أن المنطقة لم تعرف لها مثيلا حتى في زمن الاستعمار الفرنسي الغاشم.

كما أنه سيتيح لهم الفرصة للحديث عن الأوضاع الاجتماعية التي حملت الأهالي على الخروج للشارع والاحتجاج لمدة أشهر ومسؤولية نظام بن علي وسياسته الاقتصادية والاجتماعية الرأسمالية المتوحشة عن ذلك أي عن تفشي البطالة والتهميش والفقر والجوع والعطش وعن تلوّث المحيط وتردّي الخدمات الصحية والتربوية والثقافية، في الوقت الذي تستأثر فيه أقلية من العائلات من أقارب بن علي وأصهاره وأصدقائه ومن الشركات والمؤسسات الأجنبية بثروات البلاد وخيراتها.

لقد عجزت محاضر البوليس المزيفة وتقارير الهيئات القضائية الموجهة، عن تقديم الأدلة الملموسة على ما تدعيه من ارتكاب أهالي الحوض المنجمي وقادة حركتهم الاحتجاجية "أعمالا تخريبية" وتكوينهم "عصابة مفسدين". إن المطلع على قرار ختم البحث يجد هنا وهناك ذكرا لشعارات رفعت أو كتبت في لافتات وهي كلها ذات طابع اجتماعي واضح:

- التشغيل، التشغيل، لا تسويف ولا تدجيل
- يا بطال لا تهتمّ، التشغيل يُفدى بالدم
- نعم لنصيبنا من الثروة الوطنية
- نعم لمشاريع تنمية حقيقية في الجهة..
- لا كرامة بدون شغل قار..

وحتى الشعارات المعادية للنظام والبوليس فقد جاءت ردة فعل على الاعتداءات والإهانات:

- يا بوليس يا جبان لازم حق البطّال
- يا بوليس يا جبان الفقير لا يهان

وبالفعل فإن الأهالي كانوا على حق حين رددوا هذه الشعارات، فبماذا يمكن أن يوصف نظام أو بوليس يطلق النار على المدنيين العزّل ويداهمهم في مساكنهم ويروّعهم ويشنّع بهم ويتحرّش بنسائهم ويخرّب أثاثهم المنزلي ويخلع المحلات التجارية وينهب ما فيها؟ فهل سيصفّقون ويزغردون له؟ أليس من حقّهم التعبير عن رأيهم في ما يحصل لهم؟

3- قضيّة تختزل العلاقة العدائية بين الدكتاتورية والشعب التونسي

لقد رمى القضاء كل القوانين عرض الحائط وتصرّف بشكل فجّ متمما ما بدأه البوليس السياسي وأعوان السجون من تعذيب وتنكيل بالموقوفين، مؤكدا بذلك أنه قضاء طبقي، رجعي، فاشستي، في خدمة الأقلية الحاكمة ولا علاقة له بالشعب ومصالحه. إن المحاكمة التي جرت بقفصة يوم 11 ديسمبر، هي محاكمة طبقية تختزل في الواقع جوهر العلاقة العدائية بين نظام بن علي بمختلف أجهزته الإدارية والبوليسية والقضائية من جهة والشعب التونسي ممثلا هذه المرة في أهالي الحوض المنجمي من عمال وكادحين ومعطلين عن العمل وحرفيين وتجّار وموظفين صغار، وطلاب وتلاميذ من جهة أخرى. لقد أكد نظام بن علي أنه يعادي الطبقات والفئات الشعبية وأنه موجود للدفاع عن مصالح الأقليات المحلية والأجنبية النهّابة وهو مستعد لارتكاب أشنع الجرائم للدفاع عن تلك المصالح.

ولقد توفرت لأهالي الحوض المنجمي، ذوي التقاليد النضالية العريقة الفرصة للمقارنة بين الماضي والحاضر. كان المستعمر الفرنسي يعتبر عمال المناجم وأبناء المنطقة عامة الذين أبلوا البلاء الحسن في أحلك الفترات في الدفاع عن حقوقهم المادية والمعنوية وفي النضال من أجل تحرير البلاد من الهيمنة الاستعمارية، "مجرمين" و"مخربين" و"إرهابيين" ولم يتورّع عن مواجهتهم بالرصاص (أحداث مارس 1937- 19 قتيل عدا الجرحى والموقوفين) وها إن نظام بن علي، ثمانين سنة تقريبا بعد المصادمات التي تمّت بين العمال والأهالي من جهة والجيش الاستعماري من جهة ثانية، يلصق من جديد بأبناء المنطقة "تهم" "الانخراط في عصابة" و"المشاركة في عصيان مسلّح" والإضرار بملك الغير" و"إحداث الهرج والتشويش" والحال أنهم دافعوا بطريقة سلمية عن حقهم في التمتع بأبسط مقومات العيش الكريم كالشغل والخبز والماء الصالح للشراب والصحة التي ظنوا أن "الاستقلال" سيوفرها لهم.

بالأمس المستعمر. واليوم البورجوازية العميلة ودكتاتوريتها الغاشمة. والضحية هي نفسها دائما، أي جماهير الشعب الكادح. ولقد كان الأمر مماثلا في الأحداث الاجتماعية الكبرى التي شهدتها بلادنا في عهد الدكتاتورية الدستورية المنتصبة منذ نصف قرن. ويكفي ذكر الإضراب العام النقابي الذي أغرق في 26 جانفي في الدم وكان بن علي وقتها مديرا للأمن الوطني وانتفاضة الخبز في 3 جانفي 1984 التي أغرقت هي الأخرى في الدمّ. كان الفقراء على الدوام في صفّ ونظام الحكم والأثرياء في صفّ. الطرف الأول يدافع عن حقه في الحياة الكريمة والطرف الثاني عن امتيازاته وهو نفس ما حصل ويحصل اليوم في منطقة الحوض المنجمي.

وإذا كان من درس ينبغي استخلاصه من هذا كله هو الطابع الحدّي والعدائي للتناقض بين الأقلية البرجوازية العميلة ونظامها الدكتاتوري من جهة وجماهير الشعب من جهة أخرى. وهو ما يؤكد ما بينه حزب العمال في برنامجه من أن لا خلاص للعمال والكادحين والشعب عامة إلا بالتخلص من الدكتاتوريّة وإقامة سلطتهم الديمقراطية الوطنية والشعبية وبسط سيادتهم على ثروات البلاد وخيراتها ومصادرة أملاك النهّابين والسرّاق. ولا يمكن أن يتحقق ذلك للشعب إلا بالوعي والتنظيم فإذا وعى الشعب ضرورة التغيير الجذري والثوري ونظم صفوفه فإن نظام الأقلية المستبدة سينهار بسرعة. وما لم يتحقق ذلك فإن الاستبداد والاستغلال والاضطهاد الوطني ستتواصل وتضحيات الشعب ستظل بلا نتيجة ذلك أن الأنظمة المستبدة لا تسقط إلا إذا أسقطت. وتعود عملية إسقاطها إلى الشعوب ذاتها.

ونحن إذ نبدي هذه الملاحظات الجوهريّة فإننا لا ننسى ما يطرح من مهام مباشرة علينا وعلى كل قوى المعارضة المستقلة تحقيقها، وفي مقدمة هذه المهام النضال بقوة من أجل إطلاق سراح كافة المعتقلين ووقف أعمال القمع والتنكيل المسلطة على أهالي الرديف وبقية مدن الحوض المنجمي وتتبع المسؤولين عنها أمرا.

لقد ظنّت السلطة أنها استأصلت الحركة الاحتجاجية بالرديف ومدن الحوض المنجمي بعد أن أوقفت الحاجي ورفاقه ونكّلت بالأهالي. ولكن اتضح أنها أخطأت في حساباتها. فالحركة استمرّت وإن كان بوتيرة أقل. ففي جويلية 2008 خرج المئات من النساء إلى الشارع بالرديف متظاهرات ومطالبات بإطلاق سراح المعتقلين وهو ما أدى إلى اعتقالات ومحاكمات جديدة. وأخيرا وفي اليوم الموالي لصدور الأحكام على عدنان الحاجي ورفاقه سادت الرّديف موجة احتجاجية تدخّلت على إثرها فرق البوليس مما أدى إلى اعتقالات ومحاكمات جديدة أيضا. ولكن ذلك لم يوقف الاحتجاجات بالرديف إذ عاد الشباب مجدّدا يوم الاثنين 15 ديسمبر 2008 إلى مواجهة البوليس الذّي يحتلّ المدينة منذ مدّة طويلة. و في أم العرايس خرج التلاميذ صباح الثلاثاء 16 ديسمبر 2008 في مسيرة تضامنية مع أهالي الرديّف، قمعها البوليس الذي أوقف 11 تلميذ أطلق سراحهم في نفس اليوم.

إن هذه الأحداث تبيّن فشل سياسة الاستئصال الأمني. كما تبيّن تداخل المسألة الاجتماعية والمسألة الديمقراطية التين أصبحتا تشكّلان صيرورة واحدة. فقد اتضح للأهالي أن الاستغلال الفاحش و الاستبداد وجهان لعملة واحدة وأن النضال من أجل الحقوق الاقتصادية والاجتماعية مرتبط شديد الارتباط بالنضال من أجل الحرية السياسية.

إن الواجب يقتضي اليوم تنشيط المساندة لهذه الحركة المجيدة وتوسيعها. ونحن في حزب العمال نقترح إطلاق مبادرة وطنية توحيدية تجمّع كل الفعاليات السياسية والنقابية والحقوقية والنسائية والشبابية والثقافية من أجل مناصرة أهالي الحوض المنجمي وتحقيق مطالبها المشروعة. وهو ما من شأنه أن يمثّل مكسبا لكل الحركة الديمقراطية والتقدمية في بلادنا ويدفع بها إلى الأمام.

تونس في 18 ديسمبر 2008



الصفحة الأساسية | خريطة الموقع | البريد الالكتروني