الصفحة الأساسية > البديل الثقافي > الاستعمار الثقافي والفكري: المارد الخفيّ
الاستعمار الثقافي والفكري: المارد الخفيّ
27 تشرين الأول (أكتوبر) 2011

بعد الحرب العالميّة الثانية تحرّرت عديد الشعوب من الاستعمار، إلاّ أن المستعمِر وإن رحل عسكريّا وإداريّا فهو قد فرض بدائل استعماريّة صُمّمت لتكون وسائل للسيطرة وفرض التَّبعيَّة، ولعلّ أخطر هذه البدائل وأشدّها تدميرا «الاستعمار الثقافيّ» أو «الإمبرياليّة الثقافيّة» . ولتحقيق أهدافه وضع المستعمِر مجموعة من الآليات والبرامج الممنهجة واستعان بأطراف عميلة من ديكتاتوريات موالية وإعلاميين ومثقّفين.

الاستعمار الثقافيّ لا يقلّ خطورة عن الاستعمار العسكريّ باعتباره يحتلّ العقل الإنساني وييسّر آليات الإخضاع الداخليّ ويؤدّي إلى الضعف الذاتي وتخريب المناعة، بالتالي يضمن المستعمِر هيمنته على الشعوب ونهب خيراتها وعرقلة مشاريعها التّنمويّة الشاملة. فالمستعمر يسعى إلى تحطيم كرامة الشعوب وتدمير تراثها الحضاري والثقافي وفرض ثقافة الاستعمار على أنها الثّقافة الوحيدة القادرة على نقل البلاد المستعمَرةِ إلى مرحلة الحضارة، فتعمّ الرداءة والضعف والتشتت في جميع المجالات حتى الاقتصاديّة منها، ويصل الأمر إلى درجة أن يتحوّل العامّة أو حتّى النخبة إلى مدافعين عن الإمبرياليّة والليبرالية المتوحّشة والإقرار بأنّها الخيارات المثلى التي لا بديل عنها رغم ما تسبّبه من مآسي وانهيارات اجتماعيّة ومكبّلات تعيق التنمية الشاملة والحقيقيّة. حتّى أنّ اقتصاديات الدّول المستهدفة تصبح موجّهةً نحو استهلاك منتجات المستعمِر وتلبية حاجياته من موادّ أوّلية ويد عاملة رخيصة وذليلة.

هل تونس معنيّة بهذا الاستعمار؟

لا يمكن أن نستثني تونس من ضحايا هذا الاستعمار الّذي بلغ ذروته في عهد نظام بن علي، هذا النظام الّذي فرض الرداءة على جميع المجالات ولعب دور البطولة في تقييد العقول وتضييق مجالات التفكير وحصرها بطريقة موجّهة، فارضا حالة من الخمول واليأس والتغريب، مستعينا بسيطرته الكلّية على قطاعات استراتيجية مثل الإعلام والثقافة، فالإعلام لم يكن إعلاما بل كان بوقا لتمجيد وتزيين الحاكم وسياساته وتثمين كلّ ما من شأنه أن يضمن بقاء النظام ويخدم مصالحه ومصالح المقرّبين منه، في المقابل يسعى هذا الإعلام إلى شيطنة كلّ ما من شأنه أن يمسّ من ألوهيّة النظام ويعكّر صفو عمل الأطراف الناهبة لخيرات البلاد من دوائر احتكاريّة داخليّة أو دوائر امبرياليّة خارجيّة، وهذه الرداءة وهذا الاحتكار كانا يسبّبان الصداع والاضطراب وسوء التركيز لكلّ من تأمره نفسه بالسعي نحو تقديم عمل فكريّ أو إعلاميّ حرّ وموضوعيّ وتقدّميّ، ولو تجرّأ على ذلك يتّهم بالتطرّف والهمجيّة ويوصف باللاوطنيّة والمتآمر على أمن البلاد والمعرقل لمسيرتها التنمويّة. أمّا الثقافة والفكر فلقد تحوّلا إلى مجرّد بلادة وتهريج، فمن يبدع أكثر في الرداءة وتجميد العقول وتشتيتها وخدمة مصالح الحاكم والأطراف الناهبة والمفسدة في البلاد، يتمتّع بالدّعم والتبجيل والهالة الإعلامية، حتّى أنّ الرداءة أصبحت فنّا منظّما له مؤسّساته ومبدعوه.

ماذا بعد 14 جانفي 2011؟

المتابع للرأي العامّ ونشاط الأحزاب ووسائل الإعلام بعد 14 جانفي 2011 يلاحظ تهميشا شبه كلّي لقضيّة الاستعمار الثقافيّ والفكريّ وكأنّها غير موجودة، بل أنّ مواضيع جانبيّة مثل الحجاب والنقاب حضت باهتمام أكبر، وعديد الأطراف الّتي تدّعي أكاديميّتها ونخبويّتها لم تتناول هذا الموضوع ولم تشر إليه، بل هي في حدّ ذاتها أصبحت من ضحايا هذا الاستعمار الّذي يضرب العقول والأذهان بحيث يعجز الفرد عن تشخيص حالته، وينتابه شعور خفيّ بأنّه غير معنيّ بهذا الأمر، ويصبح منساقا في لا وعي نحو تمجيد سياسات الغرب الامبرياليّة والدعوة لتبنّيها والإقرار بأنّها الحلول المثلى للرقيّ والتقدّم، فمجالات التفكير والنقاش والبحث عن الحلول ورسم البرامج اكتست طابعا أحاديّا منحازا نحو تطبيق ما رسمه الغرب في العقول والأذهان على أنّه طريق النجاح الوحيد الّذي لا بديل عنه، فكلّ ما هو غربيّ يعتبر إيجابيّا وتقدّميّا أمّا غير ذلك فهو تطرّف وطريق نحو الفشل، فتجد الأمّة نفسها تخدم لاشعوريّا مصالح الغرب الامبريالي والمشاريع الصهيونيّة.

عملاء السياسة الأمريكوصهيونيّة: حقيقة أم وهم ؟

بعد هروب بن علي، تغيرت الأثواب ولم تتغيّر الاتجاهات والبرامج الاستراتيجيّة، فالإعلام واصل خدمة المصالح السياسيّة الضيّقة ومصالح الدوائر الرأسماليّة والامبرياليّة، ولا يحتاج التونسيّ إلى عبقريّة ليكتشف حقيقة عملاء المشاريع الأمريكوصهيونيّة من سياسيّين وإعلاميين ومفكّرين ومثقّفين وجمعيّات متنكّرة بأسماء جميلة ومتمتّعة بتمويلات مشبوهة، فبرنامجهم هو السيطرة على العقول وتوجيه الميولات الشعبيّة العامّة نحو الحفاظ على السياسات التي كانت قائمة حتى وإن سقط النظام وهرب الرئيس، إضافة إلى إدخال البلاد في صراعات إيديولوجية عقيمة وجوفاء الغاية منها إلهاء الرأي العام عن القضايا والمطالب الشعبيّة الحقيقيّة الّتي قامت من أجلها الثورة وإفقاد الشعب قدرته على مجابهة القوى الاستعمارية المتغلغلة في العقول وفي السياسة. كما تسعى هذه الأطراف العميلة إلى خلق هوّة بين المرء وواقعه وبالتالي يشعر بالغربة والوحشة والانخلاع والانسلاخ، واللا إنتماء. وهذه المخطّطات محورها خدمة الامبرياليّة والحفاظ على إسرائيل ودعم مخطّطاتها الصهيونيّة القريبة والبعيدة المدى.

إنّ سياسات التغريب والسيطرة على العقول وتشتيتها، وسياسات التجويع الممنهجة وإبقاء الشعب لهّاثا خلف الرغيف، حقيقة تقف وراءها قوى أمريكوصهيونيّة تجمعها مصالح امبرياليّة وعنصريّة معروفة. فرغم صغر حجمها تتمتّع تونس بموقع استراتيجيّ وعمق تاريخيّ وحضاريّ عظيم باعتبارها مهد الحضارات، ولو تمكّنت من التحرّر وإرساء نظام ديمقراطيّ وشعبيّ ستحقّق الرّقي والنجاح السريع في كلّ المجالات، ممّا جعلها مستهدفة من طرف الدوائر الامبرياليّة والعنصريّة.

كيف يمكن التحرّر من هذا الاستعمار؟

من يتابع نشاط الأحزاب ويتفحّص برامجها يلاحظ تركيزا شبه كلّي على المسألة الاقتصادية، أمّا مسألة الثقافة والفكر فيقع التلميح إليها بسرعة وكأنّها مسألة جانبيّة، ولم نر طرحا جدّيا لموضوع الاستعمار الفكري باعتباره من أهمّ المكبّلات الّتي تعرقل وضع أحسن البرامج وتطبيقها واستساغتها، فلا معنى للبرامج ما دامت العقول مكبّلة ومسيطر عليها. وعلى الأحزاب السياسيّة طرح المسألة بجدّية وإعطاءها حيّزا هامّا يتماشى مع خطورتها.أمّا وسائل الإعلام فلم تتناول الموضوع بجدّية وارتمت مباشرة في تناول القضايا والمسائل دون التنبّه إلي أنّ البرامج والنقاشات لا فائدة منها ما دام الفكر الاستعماري متغلغلا في العقول. وعلى الإعلام النزيه والمثقفين والمفكرين الحقيقيين القيام بدورهم التاريخي في هذه الفترة الحسّاسة لتحرير العقول حتّى تنهض البلاد على أسس متينة وسليمة.

يوسف بلحاج رحومة



الصفحة الأساسية | خريطة الموقع | البريد الالكتروني