الصفحة الأساسية > البديل الوطني > اليسار التونسي ومقتضيات المرحلة
اليسار التونسي ومقتضيات المرحلة
27 تشرين الأول (أكتوبر) 2011

إن الأوضاع الجديدة في تونس وضعت الجميع أمام امتحان مستجد، هو امتحان التنازع بين الإرادة والقدرة والاستطاعة، وما يعنينا في هذا الامتحان هو وضع اليسار الذي منحته الثورة فرصة الفعل الناجع، أقول منحته لأن السيار في تونس وخلال عقود مضت تقلصت حدوده في دوائر الوعي النقدي من جهة والاعتراض الاحتجاجي على المسارات الخاطئة دون أن تهيأ له فرص الفعل المنظم في الواقع...

وبعد أن خلت الساحة من الإعاقات التقليدية أصبح السيار أمام خيارات جديدة لكنها مربكة وتستوجب من الفاعلين السياسين مراجعة جدية لمقومات علاقتهم بالواقع والانتقال المفروض من طور الوعي النقدي إلى طور الفعل الناجع وقبول الشراكة الفعلية في المنجز المستقبلي.

ومن هذا الاعتبار الأخير نقيم دور اليسار ففي هذه المرحلة القصيرة -ما بعد الثورة- والتي تضاهي السبعة أشهر ونحاول إثارة أسئلة من أهمها: هل استطاع اليسار بمحموله النقدي وبإرثه النضالي أن يكون طاقة فاعلة في مستجد واقعنا؟

هل استطاع اليسار نقل آلياته وتصوّراته ليكون شريكا فاعلا دون أن يفقد خصائصه المبدئية؟

يجب أن نذكـّر بالإرباكات الكثيرة الماضية والقريبة من أهمها سعي الدكتاتورية إلى قمع كل نفس نضالي في المستوى العام وسعيها إلى بث الفرقة والألغام بهدف تبديد القوى الوطنية وإبعادها عن الفعل الممكن، وتلك الإرباكات سيكون لها كبير الأثر في عودة تمظهر اليسار ما بعد الثورة لأن الحاصل منها لازال فاعلا في تبديد الطاقات والتشظي المعهود الذي قد يحول دون تطور واع لأسس الفعل الممكن، فلئن عملت دكتاتورية بن علي على تشظي اليسار قديما فإن هاجس الزعامة ظل حارسا لذلك التشظي وموقدا له...

أحزاب كثيرة معروفة على الساحة أربكها الزحام الثوري فتطلعت للبروز -دون أن تهيء أدواته الحقيقية- ومن أهمها التوجه الى التعبئة واستغلال الفراغ الرهيب في مستوى التنظم السياسي الذي ورثناه عن العهد البائد...

كان لأحزاب اليسار فرصة مباشرة بعد الثورة في تشكيلات ثورية منها تآلف 14 جانفي ومجالس حماية الثورة...إلا أن هذه التشكيلات القريبة من الشارع ومن الوعي العام اضمحلت بفعل رغبة البعض الاقتراب من دوائر الفعل والقرار وتآكلت بانسحاب بعض مكوناتها والالتحاق بهيئة حماية الثورة التي اقترحتها الحكومة المؤقتة والتي خضعت للتعيين، وهذه الهيئة حققت بعض المسارات الإيجابية كالمسار الانتخابي لكن غياب التوافق جعلها محط طعونات عديدة…

وما يعنينا في هذه الورقة المختصرة هو فعل اليسار بين الإمكان والإرادة، ومن ذلك أن الاحزاب التي اختارت المسار التوافقي ووجدت بعض سبل الفعل من خلال الهيئة ودوائرها المقربة من الحكومة المؤقتة انخرطت في مسار إعلامي ودعائي وانساق بعضها إلى معادلة تبريرية فيها بعض الدفاع عن الموجود رغم نواقصه الكثيرة، لكن الأهم هو أن بعض الأحزاب انساقت لعبة صراع موهوم واستقطاب مغلوط –على الأقل- في لحظتنا الراهنة ونعني به العلمانية كنقيض للتدين أو الحداثة كنقيض للسلفية... وهذا الصراع وإن كان مشروعا في حكم الأدبيات الإيديولوجية فهو مفتعل في حكم الواقع واشتراطاته الجديدة، ومن هذه الأرضية الملغومة تكسب هذه الأحزاب وجاهة الحاضر لكنها تفقد بشكل ممنهج أرضية المستقبل لأن الناخب المفترض لا تعنيه هذه الإشكاليات ذات البعد الفلسفي العام بقدر ما تعنيه إشكاليات الواقع الملتبس وبالأخص ما له علاقة باليومي المعيش...

وكان يمكن لأحزاب اليسار أن تجذّر خطابها المتجذر في أصول مرجعيته الاجتماعية والاقتصادية بطرح البرنامج البديل الذي يستجيب لاستحقاقات الثورة وتطلع الشارع العريض بالتركيز على البدائل الممكنة في الدستور الجديد والذي ننتظر منه أن يقطع مع الهيمنة الطبقية الفئوية الماضية، الدستور الذي يطمئن التونسي على مستقبل عيشه الكريم كأن يخرجه من أنساق الاغتراب القسري في العمل والحياة اليومية...

وهذه الأحزاب التي صوّتت للراهن الملتبس قد أحجمت أو حدّت من دائرة فعلها المستقبلي في اصطفافها أو تحالفها الحيني مع الليبرالية الغاشمة التي تدير بحنكة الشأن العام لتستبقيه ضمن المعلوم في اقتصاديات رأسالمال التابع...

والكل يعلم أن الكرامة لا تنفصل عن الخبز وكذا الحرية، وإن تخلت بعض الأحزاب اليسارية عن سلاحها التاريخي في هذه اللحظة الحاسمة فإنها ستجد نفسها في القريب العاجل رافدا سيء السمعة لليبرالية المتجددة التي تسوق لديمقراطية الفقراء، بمعنى تلك النماذج المعلومة في التاريخ القريب التي تغير الأشكال دون الجواهر، من خلال إغراق المجتمعات في تحرر زائف عبر كثرة الأحزاب والقنوات والجرائد مع زيادة في التنكيل والتفقير الاقتصاديين...

محمد الجابلّي



الصفحة الأساسية | خريطة الموقع | البريد الالكتروني